
بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
أسس العمل التمثيلي تعتمد بالكلية على (الجهاز الحسي) لدى الفنان والجمهور، وكما سبق أن ذكرنا أن هذا (الجهاز الحسي) مكون من الحواس والذهن والشعور، وعمل هذا (الجهاز الحسي) بالنسبة للفنان يعتمد على الصور الشعورية، التي يمثلها الفنان، ويستقبلها المشاهد بتدرج منظم عبر حواسه وذهنه، إلي أن يحدث التأثير الشعوري (الجمالي) عند المشاهد.
والحواس الخمسة كما هو معروف لدينا هي المستقبلات الأولي لكل ما حولنا من الموجودات، ومن أهم هذه الحواس ، حاسة السمع، وهى من الأسس الرئيسية التي يعتمد الفنان عليها؛ كي يصل بالمشاهد إلى التأثير السمعي، من خلال الصوت البشري، أو أصوات المؤثرات الخارجية، أثناء العرض المسرحي.
وكما عرفنا من قبل أن المسرح المصري القديم يتعرض إلي موضوعات قديمة في الزمن الإنساني، وشخصيات هذه المسرحيات عاشت قبل المصري القديم بحوالي أربعين ألف سنة.
وشخصيات تلك الفترة، بوصف المصري القديم كانوا عماليق الهيئة (طوال القامة)، ولا يقل طول الفرد منهم عن خمسة أمتار وربع، ومعنى ذلك أن المستويات الصوتية لهذه الشخصيات سوف تكون مناسبة لأحجامهم، وسوف يتعامل الفنان بصوته بطبقات ومؤثرات صوتية تناسب هيئة الشخصيات التي يقدمها.
ونتخيل سويا رجل طوله خمسة أمتار، يتكلم مع رجل طول متر وستون سم، فإن الكلام سوف يكون من أعلى إلى أسفل بالنسبة لطويل القامة أما القصير فكلامه سوف يكون من أسفل إلي أعلى، وسوف يكون مستوى التأثير السمعي مختلف على كلا الرجلين، من حيث العلو والهبوط، والشدة واللين.
ونتصور كيف عالج المصري القديم هذه الإشكالية داخل العرض المسرحي، حتى يؤثر في (الجهاز الحسي) للمشاهد، وخاصة حاسة السمع، والتي سوف يتبعها حاسة البصر، واللمس، والتذوق، والشم.

صورة متخيلة للشخصية
ونسوق مثال من مسرحية (انتصار حورس): لنعرف كيف وصل المصري القديم بالصوت البشري في تقديم صورة صوتية سمعية، مستقبلة عن طريق حاسة السمع، للتحول في الذهن إلي صورة متخيلة للشخصية التي يقدمها الممثل على المسرح:
مشهد من مسرحية انتصار حورس: الصورة السمعية:
ما أسعد هذا اليوم! يدي لديها السيطرة على رأسه!
لقد ألقيت على أبقار فرس النهر في مياه عمقه ثماني أذرع.
لقد ألقيت حرابي على ثور مصري السفلي في مياه عمقها عشرين ذراعا.
ونصل حربتي طولها أربع أذرع، وحبل طوله ستين ذراعا.
وفي يدي رمح طوله ستة عشر ذراعا.
وأنا شاب طولي ثمانية أذرع.
لقد ألقيت واقفا في حرب مغلي على ماء عشرين ذراعا.
لقد رميت بيدي اليمنى، وأرجحت بيدي اليسرى.
كما يفعل رجل مستنقع جريء!
في المثال السابق: يقوم حورس بوصف الهيئة الجسدية الخاصة به: وأنا شاب طولي ثمانية أذرع، والمعني أنه عملاق، وبالتالي يختلف في هيئته عن الجمهور المشاهد، وبالطبع هذا المشهد تم إخراجه في بحيرة المعبد، ولا بد أن يكون صوت الممثل (حورس) في مستوى الهيئة الجسدية.
وأن يأتي من أعلى إلى أسفل، وسوف يعمد المخرج إلى رفع المستوى الذي يقف عليه الممثل ، ولما كان المشهد يمثل فوق قارب، يقف عليه حورس، فإن هذه المركب سوف تكون مرتفعة عن مستوى المشاهد، وبالتالي سوف يحدث التأثير السمعي داخل حاسة السمع.
وتبدأ الصورة الذهنية في تخيل الشكل العملاق لهذه الشخصية، إذا الممثل الذي يؤديها في نفس هيئتهم، ولكن عن طريق الصورة السمعية الصوتية، يعمل الذهن البشري لدى المشاهد على التخيل والتور لهذه الشخصية.
ولكى يضفي المؤلف المسرحي، هذه الصورة السمعية ويعطيها طابعها العملاق ، فقد عمد إلي وصف الأدوات الحربية التي يستخدمها حورس، ونصل حربتي طولها أربع أذرع، وحبل طوله ستين ذراعا.
وفي يدي رمح طوله ستة عشر ذراعا
بل يصف أيضا عمق الماء الذي تدور فيه المعركة: في مياه عمقه ثماني أذرع.

صورة تخيلية لهيئة الشخصية
ومن هذه الوصف السمعي، يبدأ عمل (الجهاز الحسي) لدى المشاهد، بأن يستقبل المشاهد الصوت البشري بحاسة السمع، هذا الصوت عبارة عن مجموعة من الكلمات الوصفية، تدخل إلي ذهن المشاهد، وبعد ذلك تتحول الكلمات الصوتية، إلى صورة تخيلية لهيئة الشخصية والأدوات التي يستخدمها.
وبالتالي سوف ينعكس هذا التخيل على شعور المشاهد، ويتأثر وكأنه يري الممثل الذي أمامه عملاق وأدواته عملاقة، تناسب هيئة الشخصية، ومن هذا المثال السابق، نعرف كيف أثر المؤلف المصري القديم بالصورة السمعية، في (الجهاز الحسي) للمشاهد ، وهذا التأثير جعل المشاهد مشارك في العرض المسرحي بخياله، لتصور هذه الشخصية العملاقة.
هذه بالإضافة إلي المؤثرات الصوتية الصادر عن استخدام الأدوات الحربية، مثال
إيزيس: والحوامل من فرس النهر لا يلدن.
ولم تحمل واحدة من إناثهم.
عندما يسمعون صوت رمح الخاص بك.
وصفير نصلك ، مثل الرعد في شرق السماء
كالطبل في يد طفل.
إن وصف صوت الرمح بالصفير، عندما يسمع المشاهد هذه الكلمات الصوتية، فإن الذاكرة الصوتية داخل (الجهاز الحسي) تتذكر صوت الرياح عندما تصفر من شدتها، ويتذكر صوت الرعد، وبالتالي تعمل الصورة السمعية المنطوقة على مشاركة المشاهد بجهازه الحسي داخل العرض المسرحي.
وهكذا استطاع المسرحي المصري القديم التأثير على (الجهاز الحسي) للمشاهد، مؤثرا في حاسة السمع الخاصة بالمشاهد، وعمل على إيثار خيال المشاهد عن الوصف المسموع، ليتخيل المشاهد الهيئة الجسدية والبيئة الحياتية لشخصيات هذا الزمن، وهم العماليق.