رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (فؤاد أحمد).. وجه الشر وضحية إتقانه!

رسمي فتح الله يكتب: (فؤاد أحمد).. وجه الشر وضحية إتقانه!
في كل دور من أدواره، كان (فؤاد أحمد ) يزرع الشر كما يزرع الفلاح بذور القمح

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

كان الشر يلبس وجوهًا كثيرة، لكنه لم يعرف جماله الكامل إلا حين ارتدى ملامح (فؤاد أحمد): (27 يناير 1936 – 15 أغسطس 2010).

كان يكفي أن يظهر في مشهد واحد، حتى تسري في العروق قشعريرة لا تعرف تفسيرها، كنتُ صغيرًا أعرف أن التمثيل خدعة.. أدرك أن الشاشة كذبة حلوة.. ورغم ذلك، كنتُ أرتجف حين يطل، كأن شيئًا في ملامحه يكسر حدود العقل، ويخترق القلب مباشرة.

في كل دور من أدواره، كان (فؤاد أحمد ) يزرع الشر كما يزرع الفلاح بذور القمح.. كان يعرف أن الشر الحقيقي لا يصرخ ولا يتشنج، بل يمشي بين الناس مطمئنًا.. يبتسم بحنان كاذب، ويهدهد ضحيته كما تهدهد الأم طفلها.

حين وقف (فؤاد أحمد ): في فيلم (المشبوه) بدور (حمودة الأقرع ثم بعد ذلك (حمودة الأعور)، بعد أن أحدث له ماهر (عادل إمام) عاهة مستديمة.. كان كمن يقبض على قلوبنا بيد خفية.

لم يكن (فؤاد أحمد ) مجرد شريرٍ ساذج، كان كابوسًا يتنفس.. إنسانًا يعرف أين يضرب، وكيف يكسر، ثم كيف يبتسم بعد كل طعنة.. كنتُ أراه يغضب، فأخاف.. أراه يضحك، فأخاف أكثر.. كان الشر في أدائه أكثر صدقًا من البراءة في وجوه بعض الملائكة.

رسمي فتح الله يكتب: (فؤاد أحمد).. وجه الشر وضحية إتقانه!
خطواته، نظراته، صوته الجهورى، كل شيء فيه كان يقول: احذروا، أنا هنا

خطواته، نظراته، صوته الجهورى

في (خمسة باب)، تسلل إلينا مثل قط جائع يبحث عن فرائسه.. خطواته، نظراته، صوته الجهورى، كل شيء فيه كان يقول: احذروا، أنا هنا.. كنت أشعر أن الشاشة لا تكفي لحبسه، وأن روحه القاسية ستقفز يومًا خارج الإطار وتمسك بنا واحدًا واحدًا.

ولعلّ من الأدوار التي سكنتني طويلًا، ومازالت تهمس في ذاكرتي كأنها حدثت البارحة، كان دوره في مسلسل (الدوامة) إنتاج 1973، إلى جوار (نادية الجندي ومحمود ياسين ونيللي).

في دور (المسخوط)، لم يكن (فؤاد أحمد) يؤدي الشر، بل كان يتلبّسه.. كانت عيناه تشتعلان بجمرة دفينة، وصوته ينساب كالسمّ في العروق.. كنتُ صغيرًا آنذاك، وكنتُ أعلم أن كل شيء على الشاشة مجرد تمثيل..

لكني، مع ظهوره، كنتُ أختبئ خلف المقاعد.. شيء في حضوره جعلني أخاف منه كما يخاف الطفل من الغول.. لا لأن ملامحه مخيفة، بل لأن أداءه كان مرآةً مخيفة لما قد يكون عليه الإنسان حين يتجرّد من الرحمة.

من هناك، بدأ وجهي يعرف ملامحه، ويخلط بينه وبين الخوف نفسه.. وكان ذلك الخلط، في عمقه، شهادة على عبقريته.

كان (فؤاد أحمد) لا يؤدي دور الشر، بل يصنعه، يحيكه من خيوط روحه المتعبة.. لم يكن يحتاج أن يرفع صوته، ولا أن يبالغ في قسمات وجهه، كان يكفيه أن ينظر تلك النظرة الطويلة.. تلك النظرة التي كانت تحمل كل أوجاع العالم، وغضب العالم، ودهاء العالم.

رسمي فتح الله يكتب: (فؤاد أحمد).. وجه الشر وضحية إتقانه!
كيف استطاع أن يجعل من الشر قصيدةً لا تُنسى؟

الشر قصيدةً لا تُنسى

كنت أنظر إليه وأتساءل: كيف يمكن لإنسان أن يسكن فيه هذا القدر من الغضب النبيل؟ كيف استطاع أن يجعل من الشر قصيدةً لا تُنسى؟

في كل مرة كان يظهر فيها (فؤاد أحمد) على الشاشة، كنتُ أقول لنفسي: هذه المرة سأقاوم الخوف.. سأتذكر أنه تمثيل.. مجرد تمثيل.. لكن ما إن تبدأ عينه بالاتساع، وما إن تنحني شفتاه تلك الانحناءة الساخرة، حتى أجد قلبي يسقط مثل تفاحة من شجرة عالية.

كان (فؤاد أحمد) يعرف سر الشر.. يعرف أنه ليس زعيقًا ولا تهديدًا أجوف، بل نغمات كونتر باص مرعب، وصمت قاتل، وضربة غير متوقعة.. كان الشر عنده ذكاءً، وكان الذكاء عنده جرحًا مفتوحًا، وكان الجرح عنده حبًا مكسورًا لم يجد حضنًا يحتويه.

لم يكن (فؤاد أحمد) يكره شخصياته الشريرة، كان يحبها.. كان يغفر لها خطاياها وهو يجسدها، وكان يمنحها، وسط العتمة، لمسةً من نور.. ولهذا كنا نخاف منه، ونحبه معًا.. كنا نرتعب من صوته الحاد، ونحزن حين يسقط مضرجًا بجراحه.

كأننا نعرف، من حيث لا ندري، أن خلف القسوة وجهًا مجروحًا، وخلف الكبرياء قلبًا يبكي في الليل صامتًا.

لم يكن (فؤاد أحمد) شريرًا عاديًا، بل كان مدرسةً كاملةً في كيف تجعل القسوة لوحة بديعة؛ كيف ترسم الألم بخنجر لا ينزف دمًا، بل ينزف حياة.. ثم جاء العمى.. ذلك الضيف الثقيل الذي جاءه خلسةً، حين ظن أن التضحية للفن لا ثمن لها.

رسمي فتح الله يكتب: (فؤاد أحمد).. وجه الشر وضحية إتقانه!

رسمي فتح الله يكتب: (فؤاد أحمد).. وجه الشر وضحية إتقانه!
ابتسامة منكسرة، وصمت حكيم؛ كأن الشر الذي جسّده طوال عمره

ابتسامة منكسرة، وصمت حكيم

غطى عينيه النور الأسود، لكنه لم يصرخ.. لم يشتكِ.. لم يلطم قلبه ولا يشكو القدر.. ظل (فؤاد أحمد) كما هو: ابتسامة منكسرة، وصمت حكيم؛ كأن الشر الذي جسّده طوال عمره، جاءه في النهاية لا ليؤذيه، بل ليعتذر له.. ليعانقه بدموع لم يرها أحد.

مات (فؤاد أحمد( جسدًا، لكن وجهه لم يمت.. ما زالت ملامحه تسكننا؛ نراها في الأحلام حين نخاف.. نسمع صوته إذا خفنا من الوحدة. نشعر بنظراته حين نخاف من الخيانة.

لقد علمنا أن الشر الحقيقي هو ذلك الذي نعرف أنه شر، ومع ذلك لا نستطيع أن نكرهه.. يا وجه الشر الباكي، يا ملامح الخوف الجميل، يا (فؤاد أحمد).. لم تمت كما يموت الآخرون، بل صرت جزءًا من الذاكرة؛ جزءًا من الخوف النبيل الذي لا نخجل منه.

لقد علمتنا، دون أن تدري، أن أقسى الشرور ليست في الخارج، بل تسكن في هشاشتنا نحن، وفي طفولتنا التي رفضت أن تكبر.

سلام عليك، يا من زرعت الرهبة في قلوبنا ولم تزرع الكراهية.

سلام عليك، يا من علمتنا أن الفن لا يُمثل.. بل يُحس، ويُحترق لأجله.

سلام عليك.. أيها الفنان الذي تعلمنا منه كيف يكون للشر روح، كيف تخلق شريرًا لا يُنسى، وتُخلد ذلك في أذهاننا.

بفضل (فؤاد أحمد)، عرفنا أن الفن لا يُجسد فقط الواقع، بل يُعبّر عن مشاعر لا تلمسها يد، لكن تراها القلوب وتسمعها الأرواح.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.