رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

كمال زغلول يكتب: (العقل الفني) في المسرح المصري القديم (1)

أول ممثل في التاريخ ، وهو المصري ( Ikhernofret – اخرنفرت)

بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول

نقصد بـ (العقل الفني)، هو العقل المتخصص في إنتاج العروض المسرحية، والهدف المنشود من إنتاجها، والمسئول عن نجاح هذه العروض في حالة عرضها على الجمهور .

وفي المسرح المصري القديم وجد على سبيل المثال أن مسرحية الأسرار المصرية (آلام أوزيريس) استمر عرضها آلاف السنين – كما يشير نيبو – وهذه المسرحية كانت تهدف إلى إحياء ذكرى الأزمنة الرئيسية في المجال الكوني، بالإضافة إلى عرض قصة أوزيريس وآلامه.

واذا تتبعنا هذه المسرحية في إنتاجها، سوف نجد أن هذا العرض لم ينتج من خلال الكهنة، بل أنتج من خلال (العقل الفني) الذي حول الأفكار الكهنوتية (الأسرار) إلى عرض مسرحي له هدف محدد، وهو الرؤيا التأثيرية في الجمهور المشاهد.

وإذا ما عدنا إلى أول ممثل في التاريخ ، وهو المصري ( Ikhernofret – اخرنفرت) صاحب أهم لوحة جدارية في تاريخ  فن التمثيل، والموجودة في متحف برلين برقم (12.4 برلين) سنجد أن هذا الممثل كان صاحب رؤية فنية مسرحية، واعتمد على المشاعر الداخلية للجمهور المشاهد.

وهذه المشاعر هى البنية الداخلية للعرض المسرحي، وهى التي تشكل العلاقة الجمالية بين الممثل والمُشاهِد، وهذه البنية تتكون من مجموعة من العناصر نوضحها كالتالي:

أولا: الخيال والتصورات: وهذا العنصر في المسرح يرتبط بالمُشاهِد أولا قبل الفنان إذ أن الموضوعات التي يفضلها المُشاهِد لهذا المسرح كلها مستمدة من ثقافته، وهو يعتمد على الفنان في تحقيق ما في خيال الجمهور وتصوره من واقع ثقافته الشعبية.

ثانيا: الحس: وهو العلاقة الحسية القائمة بين الفنان والمُشاهِد.

ثالثا: الإدراك: وهو إدراك الفنان للعمل، وقدرته على توصيل هذا الإدراك للمُشَاهِد.

رابعا: الشعور: وهو شعور المُشاهِد بالمتعة الجمالية المستمدة من العمل الفني، وأيضا شعور الفنان بالمتعة نتيجة إيصاله شعورٌ للمُشَاهِد وهذا يعتمد على (العقل الفني).

( Ikhernofret – اخرنفرت)، خاطب وجدان المشاهد المصري القديم وهو ما يسمى بـ (العقل الفني)

الأثر الشعوري للجمهور

ونجد من الوصف الذي قدمه  (Ikhernofret – اخرنفرت) للعرض المسرحي الذي قام بتمثيله، أنه اعتمد على الخيال والتصورات عند الجمهور، وقام بتحقيق بعض هذا الخيال والتصور عند الجمهور لكي ينتقل بالجمهور إلي مرحلة الحس ويدخل بالمشاهد إلي الإدراك الذهني، والذي يتعرف عليه المشاهد ويدركه.

ويحدث بعد ذلك الأثر الشعوري للجمهور وهو المتعة الجمالية، ونتعرف على هذا من ما كتب على اللوحة:

 (لقد مثلث ظهور آب – وات ap-uat  حينما خرج ليدافع عن أبيه.. وقد رددت العدو على عقبيه من زورق نشمت neshmet .. وقهرت أعداء أوزيريس.. وقمت بتمثيل (القوة الجبارة).. وتتبعت الإله في كل خطواته.. وأنا الذي جعلت زورق الإله (يتحرك).

وهكذا حتى يصل إلى الذروة العليا فيقول: (وأنا الذي جعلته [أي أوزيريس] يقوم في الزورق الذي يحمل جماله ، وجعلت قلوب سكان الشرق تمتلئ بالغبطة، كما جعلت المسرة بين سكان الغرب، وذلك عندما رأوا الجمال وهو نازل في أبيدوس، جالبا أوزيريس حنتي – أمنتي khenti amenti ، رب أبيدوس، إلى قصره).

ومن هذا العرض الذي قدم في اللوحة، نجد أن ( Ikhernofret – اخرنفرت)، خاطب وجدان المشاهد المصري القديم وهو ما يسمى بـ (العقل الفني)،  فكل ما في هذه اللوحة، وهو نتاج الأسرار الكهنوتية، التي ألفها الكهنة وانحرفوا بها عن ديانة التوحيد في مصر، وبالطبع لهؤلاء الكهنة أتباع تشكل وجدانهم على هذه الأسرار المؤلفة.

ولكن هذه الأسرار لما يراها الجمهور، وتصبح أكثر تأثيرا عند عرضها، وعندما يأتي القعل الفني ( Ikhernofret – اخرنفرت) فأنه يحول تلك الأفكار إلي واقع معايش، ولكن هذا الواقع لا يستمده من الكهنة، ولكن يستمده من الجمهور، من خياله وتصوراته عن هذه الشخصيات، ومشاعره نحوها.

استطاع (العقل الفني) تقديم العرض المسرحي، من خلال البنية الداخلية، للعرض المسرحي

تقديم العرض المسرحي

وبهذا استطاع (العقل الفني) تقديم العرض المسرحي، من خلال البنية الداخلية، للعرض المسرحي، التي تجمع الجمهور بالممثلين، وهى من الأسس في العروض المسرحية، ولكن يغفلها الكثير من العقليات المسرحية، مكتفين بالحديث عن البنية  الخارجية التي تظهر في صورة البناء المادي للمسرح وهى:

أولا: الموضوع: وهو إما مرتجل أو نص مكتوب مؤلف.

ثانيا: الممثل: وهو من يقوم بأداء هذا الموضوع.

ثالثا: الجمهور: وهو من يستمتع  بمشاهدة العرض التمثيلي.

رابعا: المكان: وهو المساحة المكانية التي تتشكل وفق الرؤية الإخراجية للعرض المسرحي.

ولكن إذا لم تتفق البنية الداخلية مع البنية الخارجية فيحدث إضراب عند الجمهور المشاهد، ولا يستطيع التكيف مع  العرض المسرحي .

ولهذا يعتمد (العقل الفني) في مصادرة لتقديم العرض المسرحي على البنية الداخلية المستمدة، من الجمهور المشاهد، ليقدمها في صورة البنية الخارجية للمسرح.

ونلحظ أن أهم  المشاهد في مسرحية الأسرار (آلام أوزيريس) مشهد القتل الذي يسبب صدمة عند جمهور المشاهدين، وقد اعتمد الممثل في تمثيلة، على تصوير هذا الحادث وإخراجه، بصورة تقترب إلى ما في خيال الجمهور.

فصمم بحيرة صناعية لتمثيل هذا الحادث: ونجد الوصف التمثيلي والحديث بين ست (الصامت المتأهب للقتل) وأوزيريس مؤثرا جدا على الجمهور، وعلى وجدانه الداخلي، وهذا نجده في المثال التالي:

ست: يظهر في مركب قادما هو واتباعه ، متجها إلي الشاطئ.

أوزيريس: أني لم أرتكب إثما، لا تجعل بغضك يتفجر ضدي، إنني أمنح وسأعطيك وفقا لأوامري، ولا تنتزع قلبي من جنياه فإنني أنا رب الحياة.

ومن لوحة (Ikhernofret – اخرنفرت) ووصفه للعرض المسرحي، ومن مشهد قتل أوزيريس يمكننا القول أن فن المسرحي المصري القديم، كان يعتمد على (العقل الفني) المسئول عن العروض المسرحية، والهدف من تقديمها، بالرغم من أن أحداث هذه النصوص، غير حقيقية، وهى مؤلفة من قبل الكهنة المنحرفين عن الديانة التوحيدية للشعب المصري.

ولكن كذب الكهنة شكل وجدان بعض التابعين لهم، وعندما تعرض يجد المشاهد أنه أمام بشر يتصارعون على حكم مصر، ويستعينوا بقوي ثانية على رأسهم أتوم (آدم – أبو البشر)، ولهذا تغلف هذه المسرحيات بطابع الدين السياسي.

ولكن ما نحاول أن نتوصل إليه، من خلال عروض المسرح القديم هو وجود (العقل الفني) الذي كان يدير هذا المسرح ويقدمه بمهنية وتخصص فني معتمدا على الجمهور.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.