
بقلم الكاتب الصحفي: رسمي فتح الله
في إحدى رحلاتي إلى المملكة المغربية، كنت بصحبة الزميل الكاتب الصحفي (سعد سلطان)، بعد هبوط طائرتنا في مطار كازابلانكا، استقللنا القطار المتجه نحو العاصمة الرباط، السماء كانت تغازل الأرض بغيوم خفيفة، والنسيم يحمل عبير المحيط كأنه رسالة بعيدة من عالم آخر.
جلسنا نراقب المشهد المتدفق من نافذة القطار، حين وقعت تلك المصادفة التي بدت وكأنها مكتوبة مسبقًا في سيناريو القدر.. جلس أمامنا الفنان الكبير (عبد العزيز مخيون)، برفقة بناته.
لم يكن بحاجة إلى مقدمات، فملامحه مطبوعة في وجداننا من خلال أدواره الخالدة.. حضوره كان هادئًا لكنه نافذ كالسهم، كأنك تجلس إلى حكيم يعرف دروب الفن والحياة معًا.
مع بداية الحديث، شعرنا أننا أمام فيلسوف مسرحي، رجل يحمل عبء الفن والحياة في قلبه.. كان (عبد العزيز مخيون) ودودًا متواضعًا حد الزهد، يتحدث عن الفن كرسالة تتجاوز حدود خشبة المسرح، وعن الإنسان كغاية سامية لكل إبداع.
وبينما القطار يشق طريقه بين الحقول والمروج، دعانا (عبد العزيز مخيون) لحضور ندوة في معهد التمثيل المغربي، دعوة فتحت لنا بابًا لرؤية عمق عبقريته، حيث سمح لنا الغوص في روحه وفهم سر تفرده بين أبناء جيله.

جراح القلب وروح الثورة
لم يكن (عبد العزيز مخيون) مجرد ممثل بارع، بل إنسان يحمل جراح الوطن في قلبه كندوب لا تندمل.. بعد ثورة يناير، سألته مذيعة عن محاولة اغتياله الشهيرة في 2005، والتي دبّرها عشيق زوجته الخائنة. لكنه لم يتحدث عن آلامه الشخصية، بل قال بصوت خافت يشبه أنين الوطن:
(ما عانيته لا يقارن بتضحيات شهداء الثورة وأوجاع أهاليهم، ولا يساوي شيئًا أمام مصابيها الذين فقدوا أبصارهم وأحلامهم. حتى منعي من الأعمال الدرامية بسبب مواقفي السياسية شىء لا يذكر أمام تلك التضحيات).
كان كمن يرى نفسه مجرد تراحيل عابرة في قطار طويل، بينما الجراح الحقيقية تُحملها عربات الثورة وأوجاع الوطن، ثم روى موقفًا مؤثرًا عن المخرج (عبد الحكيم التونسي)، الذي دعمه خلال فترة منعه من التمثيل، عندما كان يقدم برنامجًا شعبيًا يناقش قضايا الناس بميزانية ضئيلة، قال (عبد العزيز مخيون):
(معظم الممثلين الكبار قاطعوا البرنامج لقلة الإنفاق عليه، لكني بقيت وفيًا لفني، مخلصًا لرسالتي).
وحين طُلب منه الحديث مجددًا عن محاولة اغتياله، كشف تفاصيل أخرى:
(قبل الحادث بأيام قليلة، دعَتني قناة الجزيرة لمداخلة مع عادل إمام.. تحدثت من القلب، طالبت بانتخابات نزيهة، من أصغر عمدة لأكبر رئيس.. لم أجيد المراوغة أو الاختباء خلف الكلمات.”
كان صوته آنذاك صوت الصقر الذي يعلو فوق الجميع، حتى لو دفع ثمن تحليقه وحده.

رحلة بين الصقر والحياة
ومن القدر إلى الفن، تأتي قصته مع فيلم (الهروب) للمخرج الراحل عاطف الطيب، حيث لعب دور الرائد (سالم زيدان).
يحكي (عبد العزيز مخيون) عن كواليس اختيار الدور وكأنها حكاية قدَر مكتوبة على أجنحة الرياح.
في إحدى الجلسات بمقهى بسيط مع عاطف الطيب، كان الحديث يدور حول الفيلم حين قال الطيب فجأة:
تردد (عبد العزيز مخيون) في البداية خوفًا من غضب الممثل المعتذر عن الدور، لكنه استسلم لإصرار الطيب.. قرأ السيناريو وشدّه فورًا دور (سالم زيدان) – ضابط صعيدي وصديق طفولة للهارب منتصر، الشخصية التي جسدها العملاق أحمد زكي. لكن العقبة الكبرى كانت اللهجة الصعيدية.
هنا استعان (عبد العزيز مخيون) بأحد الصحفيين من أبناء سوهاج، فتعلم اللهجة كأنها موسيقى يعرفها قلبه مسبقًا، أضفى عمقًا واقعيًا على الشخصية، ليخلق ضابطًا تتأرجح روحه بين الواجب والذكريات، تمامًا كصقر يبحث عن مكان للهبوط لكنه لا يجد سوى الفراغ.

(صقر ولا حداية؟)
من أقوى مشاهد الفيلم كان مشهد القطار بين سالم ومنتصر – قطار يشبه قطار المغرب الذي جمعنا نحن الثلاثة، لكنه كان هذه المرة قطار تراحيل، محمّلًا بالقدر والمصير.
الكاميرا ساكنة، تراقب صمتًا ثقيلًا بين الرجلين بينما القطار يمضي نحو المجهول.
(سالم) يحدق من النافذة نحو السماء: (صقر ولا حداية؟).
منتصر، بعد صمت طويل: (الصقر ما ينزلش لتحت كده).
حوار بسيط لكنه كان مرآة لأرواحهما – (سالم) الضابط الملتزم ومنتصر الهارب بروح متمردة لكنها نقية. بين السجائر والكلمات الثقيلة، دار حديث عن طفولتهما وشجرة الجميز العتيقة، وعن الصقر الذي لا ينزل إلا ليصطاد أو ليموت.
منتصر قال: (الصقر ملك السماء… ينام فوق الهوا وما ينزلش تحت إلا يوم موته).
جملة بدت كأنها نبوءة عن مصيره، تمامًا مثل قطار التراحيل الذي يحمل البشر بين الحياة والموت دون أن يسأل عن رغباتهم.

فن لا يُنسى
لم يكن سالم زيدان هو الدور الوحيد الذي تألق به مخيون. أدواره كانت دومًا نوافذ إلى روحه العميقة:
* ليالي الحلمية – بدور طه السماحي، مرآة النفس البشرية وصراعاتها.
* الجوع – جابر الجبالي، الأخ الطيب الذي يسجنه أخوه لأنه أطعم الفقراء.
* بدون ذكر أسماء – عم ربيع بائع البسوسة، الرجل البسيط الذي يُخفي قهره خلف وجه مبتسم من أجل عائلته.
كل شخصية كانت جزءًا من روحه، كأنها محطات في قطار عمره، تارة يمتلئ بالفرح وتارة أخرى بالحزن.

طائر لا ينكسر
(عبد العزيز مخيون) يشبه الصقر الذي تحدث عنه في الهروب – طائر حر، يحلق فوق قيود الشهرة والسياسة.. تعرض لمحاولات اغتيال، مُنع من التمثيل، لكنه ظل يحلق، لا ينكسر.
في ختام رحلتنا إلى المغرب، وعند بوابة معهد التمثيل، التفت إلينا قائلًا:
(الفن الحقيقي هو الصدق.. حتى لو طارت كل الصقور وبقيت وحدك),
كلماته بقيت عالقة في ذهني، تمامًا كصدى قطار يبتعد لكنه يترك أثره في الأفق. هكذا هو (عبد العزيز مخيون) – صقر لا ينكسر، يحلق بين الفن والحياة، بين قطار المغرب وقطار التراحيل، يحمل جراحه كأجنحة لا تعرف السقوط.