رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(قصي خولي).. أداء يتسم بالعفوية والتلقائية طبقا لقانون حرفية التمثيل

تميز الفنان (قصي خولي) طوال عمله فى الدراما التى انخرط فيها منذ بداياته الأولى بأدائه الرشيق

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة

أثبت لي الفنان السوري المبدع (قصي خولي) في مسلسل (القدر)، أن حرفية التمثيل فى التليفزيون هى مقننة وتتسم بالعفوية والتلقائية الخالية من أى مبالغة فى الأداء، ويبدو لي وعيه التام بأن الكاميرا ستضخم أى تعبير فى الوجه مهما بدا صغيراً مثل جفن يرمش أو فم يرتجف انفعالا أو عيون حزينة تدمع.

لقد بدت الكاميرا مع (قصي حولي) وكأنها المجهر الذى يقوم بتكبير العينات الموضوعة أمامه عشرات المرات، فلا تلمح أي تعبير مبالغ به من قبل هذا الممثل العبقري الذي يعرف جيدا تأثير الصورة التلفزيونية في مخيلة الجمهور، ويعرف أيضا أن آلة الميكروفون هى جهاز حساس يتحسس أدنى الدرجات الصوتية (التونات) ويعمل على تضخيمها.

ولذا فإن أقل ارتفاع فى الصوت عند (قصي خولي) له حده الطبيعى الذي لا يصبح نشازا كما هو الحال مع الصورة، وقد ظهر ذلك جليا أيضا في انسجامه  التام عبر لغة جسد متقنة للغاية مع شخصية (زيد)، في كل إيماءته وسكناته وحركاته المفاجئة للمشاهد بشكل مذهل، وخاصة أن وجهه المبتسم يعلودائما بالمشاعر الإنسانية  التي تأسرك من فرط روعتها.

أبرز ما يلفت نظرك في أداء (قصي خولي) أنه يتسم بالعفوية والتلقائية طبقا لقانون حرفية التمثيل، فهو يمثل حالة تمثيلية خاصة ربما لأنه لايعرف المبالغة فى الأداء ولا يلجأ للصوت العالى – إلا قليلا حسب الموقف الدرامي – حتى فى أقوى المشاهد التى تتسم بالغضب والانفعال تجد ابتسامته تحمل قدرا من الدهاء الذى يلخص الحالة العامة للشخصية التى يجسدها.

ولهذا تميز الفنان (قصي خولي) طوال عمله فى الدراما التلفزيونية التى انخرط فيها منذ بداياته الأولى بأدائه الرشيق مصحوبا بخفة ظل طبيعية، حيث يقدم فى كل عمل شخصية مختلفة عن الأخرى، لذا نال ثقة الجمهور خصوصا فى اختياراته لأعماله.

التماهي مع انحناءت السيناريو وتقلب الأحداث العاصفة في سيرها نحو مناطق مجهولة في النفس البشرية

تلقائية مذهلة في الأداء

أكثر ما لفت نظرى فى أداء (قصي خولي) لشخصية (زيد) في مسلسل (القدر) هو إحالته التلقائية على الظاهرة الاجتماعية التي يعيشها، بما تثيره فى النفس من ألم وحسرة على أسرة تبدو متماسكة في ظاهرها، بينما تضج تحت السطح بصراعات دفينة وطاقات أهدرت، إنها تلك الهزة التى لطالما خبرها (قصي خولي) حين يكون بإزاء عمل إبداعى عظيم، رعشة تذكر بقول (بدر شاكر السياب) في قصيدة (أنشودة المطر):

فتستفيقُ مِلءَ روحى نشوةُ البُكاء

ورعشةٌ وحشيةٌ تُعانِقُ السَّماء

كنشوة الطفل إذا خاف من القمرْ!

كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ

وقطرة فقطرةً تذوب في المطرْ..

وكركر الأطفالُ في عرائش الكرومْ،

ودغدغت صمت العصافير على الشجرْ.

تلك الأبيات السابقة تلخص الحالة الإبداعية الخاصة التي شاهدتها في أداء (قصي خولي) المذهل لشخصية (زيد) في التماهي مع انحناءات السيناريو وتقلب الأحداث العاصفة في سيرها نحو مناطق مجهولة في النفس البشرية.

من خلال متابعتي الدقيقة والمتأنية للفنان المبدع (قصي خولي)، أشهد أنه فنان من طراز خاص، امتاز بأعماله الفنية التى تحمل طابعا خاصا تأخذه بعيدًا عن الأدوار التقليدية، وكما يبدو لي أنه من جانبه يحرص فى كل مرة قبل أن يدخل (البلاتوه) أن يختار أعماله بعناية.

فهو يحرص دائماً على أن يقدم فنا يليق ويحترم عقلية الجمهور، وعلى الرغم من أنه طوال مشواره الدرامى لم يسع للبطولة المطلقة، فهو على قناعة تامة بأن العمل الفنى عمل جماعى ينجح بتكاتف الجميع، لذلك حرص على انتقاء أدواره بدقة واختيار الأدوار التى تترك بصمة لدى الجمهور.

ومن ثم فقد سعت البطولة بنفسها إليه، رغم أنه لم يحالفه الحظ فى بدايته الفنية فى تحقيق نجاح كبير من خلال الأعمال التى شارك بها، ولكن كان دائما فنانا متميزا وسط أى فريق عمل فنى يشارك فيه، بحيث يجعلك كمشاهد للعمل تقول إنه هو الشخصية بالفعل، وليس ممثلا يقدم الشخصية، من كثرة تقمصه وتوحده مع الدور الذى يقدمه.

كان من الممكن أن يستكين (قصي خولي) للأدوار الثانية، والمساعدة، ولكن إخلاصه وقدرته المتواصلة على الحلم والعمل على نفسه والثقة فى موهبته كل ذلك جعله يركز إلى حد الغرق التام فى الدراما التليفزيونية، وقدم بطولات مشهودة له  فى سباق التليفزيون الذى لا يرحم (السباق الرمضاني).

مخارج الألفاظ عنده منضبطة، ولغة الجسد عنده مبهرة

أدوار فارقة فى حياته

تماما كما قدم أدوارا فارقة فى حياته الفنية فى عديد من مسلسلاته، منها على سبيل المثال وليس الحصر: (أرواح عارية عام 2012، رجال العز، والعشق الحرام 2011 ، بنت الشهبندر 2015، جريمة شغف 2016، أهل الغرام، وبقعة ضوء، حكم العدالة 2018، خمسة ونص 2019، لا حكم عليه 2021، 2020  عام 2021)، وصولا لعام 2022 حيث قدم مسلسلي (الوسم، ومن إلى) حتى مسلسله الحالي (القدر).

حين تشاهد أداء (قصي خولي) بتركيز شديد ستجد أن مخارج الألفاظ عنده منضبطة (سواء كانت فصحى أو عامية)، ولغة الجسد عنده مبهرة، وملامح وجهه تُعبر عن الجدية والشر المبطن خلف قسمات الوجه المبتسم دوما، وهذه قدرة لا يستطيعها أي ممثل، ولأن الله وهبه صوتا مميزا لذلك فإنه لم يهدر تلك القدرة واستخدمها كما ينبغى الاستخدام.

فالهدوء فى موضع الهدوء والانفعال المدروس فى موضع الانفعال، ليس برفع الصوت أو الصريخ والزعيق، ولكن مستوى الصوت أعاد لى طريقة أداء الفنان العالمى (مارلون براندو) فى الفيلم الشهير (الأب الروحي).

ومن هذه المقاربة ستعرف كيف أجاد (قصي خولي) استخدام صوته، بحيث أنك لن تشعر أبدا أنه يمثل، ولكنك ستندمج معه وتعيش مع الشخصية التى يؤديها وتنسى تماما (قصي)، حتى أننى بالفعل نسيت وأنا أراه فى المسلسل (القدر) أننى أعرفه، ونسيت شخصيته التى أعرفها، وعشت ومازلت أعيش مع الشخصية التى يؤديها بكل تفاصيلها حتى الآن.

أسرني (قصي خولي) في مسلسل (القدر) من بداية مشهده الذي كان يرقص فيه الدبكة، ومازلت أتلهف وبشغف شديد إلى الاستمتاع من حلقة إلى أخرى، وأنا أقول لنفسي: هذا المشهد سيكون (ماستر سين)، لكن سرعان ما يفاجأني بمشهد آخر أقوى من السابق بفعل تعدد روافده الإبداعية القادمة من أعماق بعيدة، ومشاعره المتدفقة كشلال هادر بالماء العذب النقي.

استوقفتني الحلقة (25) من بدايتها عندما علم بأن (نور) أجهضت ابنه، فقد بدا الاضطراب الشديد عليه وهو يقود سيارته مسرعا نحو المستشفي، ولهفته وهو يسابق الزمن في سرعة أشعرتني بالنبض بين ضلوعه، وحتى التقي (نور) وجلسا سويا على أريكة خشبية وسط الحديقة حتى أخبرته بحقيقة احتفاظها بطفله.

عندئذ بكي (قصي خولي) بحرقة من شدة الفرح، وكأن روحه قد ردت إليه من جديد، فقد بدا عملاقا لا يطاوله أحد في أدائه التدراجيدي بعدما اختلطت دموع الفرح بالغضب من تصرفات أمه بمداد من فيض مشاعر متدفقة، فبدا كالبحر الهائج بفعل تقلبات الرياح العاتية، ثم يعود إلى صمته وهمسه من جديد رومانسيا حالما مع (نور) على عشاء احتفالا بعيد ميلادها.

حينذا قلت بيني: هذا هو (ماستر سين) حلقات المسلسل على الإطلاق، لكنه سرعان ما قفز على هذا بمشهد أقوي في عتابه لأمه ليكتب سطرا جديدا من سطور إبداعه في الحلقات التالية، ويبدو أنه سيظل يدهشنا طوال الحلقات القادمة، خاصة أنه صنع كيمياء خاصة بينه وبين كل فريق العمل، خاصة (ديما قندلفت) و(رزان جمال) اللتين سجلتا براعة وإتقان في الأداء (هذا موضوع آخر سنتطرق له بعد انتهاء الحلقات).

يتمتع بالجاذبية الطبيعية لاسيما التأثير الفطرى والحضور والقابلية التى هى (الكاريزما)

يتمتع بالجاذبية الطبيعية

خلاصة القول: أن (قصي خولي) أكد إن على الممثل وفقا لمنهج (ستاسنلافسكى) أن يؤلف فى ضوء ما لديه من معطيات سيرة كاملة للشخصية التى يؤديها وأن يجعل فى ذهنه صورة حسية دقيقة لسائر ظروفها المرتبطة بما يجرى على الشاشة ولو ارتباطا غير مباشر.

وهذه مهمة صعبة، ولكن (قصي خولي) جعلها ممكنة إذا اكتملت فى الممثل شروط الإعداد المهنى، ومن أهم صفات الممثل أن يتمتع بالجاذبية الطبيعية لاسيما التأثير الفطرى والحضور والقابلية التى هى (الكاريزما) حتى يصدقه الناس، كما يجب أن يستطيع تقمص الشخصيات على اختلافها والتمتع بالمرونة الجسدية والإنسيابية والحيوية التي تنعكس بالضرورة على الأداء.

أما مهارات التمثيل عند (قصي خولي) فتتمثل في التواصل اللفظي باستخدام تكنيك خاص ومختلف: (بمعنى أنه  يجب أن يمتلك الممثل القدرة على النطق والتحدث بوضوح، ونقل المشاعر من خلال الكلام، والتحكم في درجة صوته ونغمته وارتفاعه، كما يجب أن يكون قادرا على التحدث بصوت عال أو الهمس، وذلك وفقا لما يناسب المشهد التمثيلي).

فضلا عن هذا وذاك أن (قصي خولي) يتمتع بالليونة الجسدية، حيث يتطلب التمثيل قدرا كافيا من قدرة الممثل على أداء الحركات بما يناسب المشهد التمثيلي بمفهوم (ستانسلافيسكي)، وهذا لا يتأتي إلى بالاستماع الفعال: (أي يجب أن يكون الممثل قادرا على الاستماع للتعليمات والنقد جيدا، والاستفادة منها لتطوير العمل والنفس).

وكل ذلك لا يتحقق إلا بالإصرار والإبداع، وعليه يجب على الممثل أن يكون قادرا على التركيز في المشهد الذي يقوم بتصويره، وعليه أيضا امتلاك التحمل البدني والقوة الكافية لتلبية متطلبات العمل المرهقة أحيانا، والذي قد يستمر لساعات طويلة.

شكرا (قصي خولي) لقدرتك الفائقة على جعلنا مشدودين ومشدوهين طوال المشاهدة بأدائك المبهرالذي يكشف عن موهبة حقيقية سكنتك منذ أول يوم وأول مشهد لك على الشاشة، لتؤكد أنها هبة من عند الله قد اختصك بها.. مزيد من النجاح والتألق دائما وإلى لقاء آخر مع نهاية (القدر).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.