
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
ارتجت غرفة التحقيق التي أجلس بها عندما ذكرت كلمة التثوير وكأن هناك زلزال، غادرت الفتاة التي تحقق معى لفترة وتركتنى وحيدا، وعندما عادت كانت أكثر جهامة وعبوسا، سألت في غضب: أنت قلت أنك تستخدم (المسرح) أداة للتثوير.. كيف ؟
قلت: عن طريق عروض تعزز الاندماج الاجتماعي، وتمكين الفئات الضعيفة – خاصة المهمشة- وبناء الهوية الثقافية، أو إقامة ورش العمل المسرحية، مثل (مسرح المنتدى)، أو (مسرح المقهورين)، تسهم في بناء مهارات التواصل، القيادة، والتفكير النقدي، وهي جميعها أدوات تنموية فعالة.
قالت: و ما (مسرح) المقهورين؟
قلت: هو (مسرح) مختلف قائم على فلسفة العالم التربوى البرازيلي (باولو فريري) الذى رأى أن التعليم هو أداة للقهر، فيها يتم التعامل مع المتعلمين وكأنهم مجرد وعاء لمعلومات محددة يلقيها المدرس (صاحب السلطة) ويستدعيها الطالب في الامتحان ليضعها في أوراقه، دون ان يناقشها أو يختبر صحتها، أو يكون له رأى فيها، لتخلق مواطنا مقهورا يعتنق ثقافة الصمت.
ومن هنا فكر المسرحى (أوجستو بوال) في تقديم أعمال مسرحية تناقش أشكال القهر وتقع شخصياته في مواقف و يطلب من الجمهور اقتراح حلول لها و المشاركة في تقديم هذه الحلول.
وهكذا يتجه إلى إلغاء سلطة الممثل على المتفرجين وتفتيت تلك الصورة السائدة لـ (المسرح) والتي تقسم الناس في التجربة المسرحية الى ممثلين فاعلين ومتفرجين سلبيين لا اثر لهم في صناعة الحدث، فهي تدفع الى التشابك بين الممثلين والمتفرجين في إنتاج العرض.
وتغيير المعادلة الفنية لصالح تقاليد مسرحية جديدة لا يدعى فيها المتفرجون إلى مناقشة العرض فحسب، وإنما للمشاركة الفعلية في منح العرض صورته النهائية عبر الاشتراك في الأداء وتنفيذ تصوراتهم المقترحة.

كلا من (فيريرى وبوال)
قالت: ألا تعلم أن كلا من (فيريرى وبوال) تم اعتقالهما و نفيهما من هناك؟
قلت: أعلم ولكن (بوال) عاد وقد أخذ مكانا في تاريخ (المسرح) وفي تاريخ النضال لا يدانيه إلا (بريشت).
قالت: أنت إسلامى وشيوعى أيضا؟
قلت: لست هذا ولا ذاك، برغم أنى لا أراهما تهمتين ولكنه شرف لا أدعية.
قالت: بالطبع لأنك تتشدق بكلام عظيم وأفكار ضخمة وأنت لا تعرف عنها شيئا.
في البداية ظنناك إرهابيا، خاصة أن اسمك وحده تهمة، فلقد وجدنا في أمتعتك أشياء قابلة للاشتعال، ولكن زملاءك قالوا أنها إكسسوارات وقطع ديكور.
وقالوا إنكم جئتم من أجل عرض عن التنمية المستدامة، ولكننا وجدناك لا تفهم التنمية المستدامة، فأنت لم تحقق أدنى الشروط في ذلك العرض، فلم تتبنى ممارسات (المسرح) صديق البيئة: مثل إعادة تدوير الديكورات، أو تقليل النفايات.
فهمت من التنمية المستدامة شقها السياسى مع أن لها بعدين آخرين هما البعد الاقتصادى والبعد البيئي، ولم تفكر في مناقشة قضايا ملحة مثل التغير المناخي، التصحر، أو فقدان التنوع البيولوجي، مما يرفع الوعي البيئي لدى الجمهور.
قلت: حتى لو تكلمت في التغير المناخى فهو حديث في السياسة، فكل دراما (هى حدث سياسي، لا تخلو من تحريض، أو تشريح لسلوك أو فكرة ما) وكل أنماط السلوك بحسب (مارتن أسلن) فيها مضامين اجتماعية وبالتالي سياسية.
قالت: و لكن للأسف أنت تخطئ الخطأ الذى حذر منه (بوال) مثقفى العالم الثالث الذين يسعون إلى استعارة حلول لمشكلاتهم من المجتمعات الأخرى، دونما فحص أو تحليل نقدي لسياقاتها التاريخية التي ظهرت وتبلورت فيها، ونتيجة ذلك أن تصبح ثقافة هذه المجتمعات (ثقافة مغتربة)، وعلى هذا فقد قررنا عدم السماح لك بالدخول وإعادتك فورا إلى وطنك.
قلت في غيظ: وتقولون أنكم بلد الحريات؟ أين هى الحرية؟
قالت في تهكم: الحرية موجودة يا صديقى وأولى مظاهرها أننا أحرارا فيمن نستقبله ومن نمنعه من الدخول.
قلت: لقد تغير مفهومكم للحرية إلى الضد، فيما سبق حاز (أوجست بوال) هنا جائزة الإنجاز المهني من جمعية (المسرح) في التعليم العالي في عام 1997، وقبلها احتضنت هذا البلد (بريشت) أثناء فترة الحكم النازي، و(المسرح) السياسى ازدهر هنا في أشكال متعددة كمسرح الصحف الحية في وقت (المسرح) الفيدرالي ومسرح الشارع، ولديكم (إلمر رايس، وآرثر ميللر).

استقبلنا (بريشت)
قالت: كل ماذكرته كان وليد ظروفه وانتهى بانتهائها، استقبلنا (بريشت) عندما كان ضد النازي وطردناه بعد أن هزمنا النازي، كما طردنا صديقه (شارلى شابلن)، والمسرح الفيدرالي كان جزءًا من علاج الرئيس (روزفلت) لفترة الكساد الكبير عام 1935، لتوفير فرص عمل للفنانين والممثلين والكتاب المسرحيين، و تقديم عروض مسرحية للجمهور بأسعار معقولة.
و تم إغلاقه في غضون أربع سنوات عندما نادى بأفكار اشتراكية، أما مسرح الجريدة الحية ومسرح الشارع فأصبح مكانهما المتحف وكتب تاريخ الدراما، وهما حلية على ثوب الديمقراطية – كما أرثر ميللر – نتباهى بها.
إننا نعرف الجميع ونرصد تحركاتهم ونجيد استخدامهم وقت نحب، ثم نتخلص منهم بانتهاء مهمتهم، انظر إلى صديقك (بوال) عندما سافر الى فرنسا ألم يغير مسرح (التثوير) الى مسرح للعلاج النفسى؟ هذا هو الذكاء لقد وجد واقعا مختلفا فتعامل معه، أما أمثالك من أصحاب الشعارات فلا مكان لهم هنا.
قلت: سأفضحكم في كل مكان، سأكتب في الصحف وعلى مواقع التواصل، سأشكو للأمم المتحدة صاحبة الدعوة.
قالت: كل ما ذكرته نملكه بشكل أو بآخر.
قلت: وتدعون أنكم بلد الحرية وتضعون تمثالا لها وتجعلونه شعارا لكم.
قالت في هدوء: سأرتب لك زيارة لترى التمثال، ساعتها ستكتشف أنه وضع بحيث يظل وجهه لنا وظهره لبقية العالم، أما الشعلة التي في يده فهى نار تحرق كل من يحاول النيل منا او من مبادئنا!
انصرفت الشابة من الغرفة وبعدها بفترة لا أدرى طولها اصطحبنى رجال أشداء حتى باب الطائرة، وهناك تصفحت الصحف لأقرأ عن عرض قدمته فرقة من جنسيات مختلفة عن التنمية المستدامة والتغير المناخى في بهو الأمم المتحدة دون حضور المخرج الذى لم يستطع الحضور مع الفرقة!