رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !
في سن مبكرة، انطفأ بصره، لكن نورًا آخر كان قد أُشعل في داخله

بقلم الكاتب الصحفي: رسمي فتح الله

في كل جيل يبعث الله نورًا، نورًا ليس له من طبيعة الأرض شيء، بل يُرسل كما تُرسل الأنفاس في صدر العارفين، ليمسح عن القلوب صدأها، وليوقظ الأرواح النائمة في عتمة الحياة اليومية؛ كان صوت الشيخ (محمد رفعت) هذا النور.

 لم يكن مجرد حنجرة ترتل، ولا صوتًا يُسمع فحسب، بل كان تجليًا صوتيًا لنورٍ لا يُرى، وحضورًا ربانيًا تشعر به أكثر مما تفهمه.

وُلِد (محمد رفعت) في 9 مايو 1882 بحي المغربلين، الحي العتيق الذي تسكنه أرواح القاهرة القديمة، حيث الأزقة تضيق بالمارة وتضج بالدعاء.

في سن مبكرة، انطفأ بصره، لكن نورًا آخر كان قد أُشعل في داخله؛ كأن السماء حين سلبته نعمة النظر، أهدته بصيرة لا تُدرَك إلا بالقلب.

لم يكن يرى الأشياء كما نراها، بل كما ينبغي أن تُرى؛ لم تبهره ألوان الورد، بل أبهجه عبيرها، ولم يسحره ضوء القناديل، بل سحره حضور النور في النفوس.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !
فقد بصره، لكنه اكتسب رؤية من نوع آخر

العين التي في القلب

الشيخ (محمد رفعت) فقد بصره، لكنه اكتسب رؤية من نوع آخر؛ رأى بالنور لا بالضوء، وبالسمع لا بالبصر.

كان يُصغي للقرآن لا ليحفظه فحسب، بل ليغوص فيه كما يغوص العاشق في محبوبه، صار ترتيله مرآة لتلك الرؤية العميقة، فكل آية يقرأها تُضيء زاوية جديدة في النفس، وكل نغمة يتلوها تُنبت شعورًا طريًا في القلب.

إن فقدان البصر لم يكن نقصًا، بل كان تمامًا؛ لقد حرّره من فتنة الصورة ليكون خالصًا للنور.

ومن هنا، لم يكن صوته مجرد أداء، بل كان انكشافًا داخليًا، صوتًا يأتي من أعماق النور الذي يسكنه؛ هذا ما يفسر ذلك الشعور العجيب الذي يتملّك السامع حين يُصغي لترتيله؛ شعور أنك لست في مجلس تلاوة، بل في حضرة.

وأنك لا تسمع قرآنًا مألوفًا، بل تشهده لأول مرة، كأنه يُنزَّل الآن، على قلبك أنت.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !
صوت (محمد رفعت) لم يكن يرتل القرآن، بل يترجمه إلى لغة الشعور

الصوت طريق إلى الله

صوت (محمد رفعت) لم يكن يرتل القرآن، بل يترجمه إلى لغة الشعور، إلى لسان لا يُنطق، بل يُحسّ.

كان إذا بدأ قراءته، صمتت الأشياء من حوله، وسكنت الكائنات، وكأن الزمن توقف قليلًا ليُنصت.

في صوته حزن لا يشبه الحزن، بل شوق عظيم، وتضرع ناعم كنسمة على خد الفجر.

صوته كان توسلًا، وكان رجاءً، وكان فرحًا دفينًا يُزهر فجأة عند مواضع الرحمة.

ولعل أجمل ما في ترتيله أنه لم يُحزنك يومًا، بل يُطهّرك، كان يبكيك لا ليسحقك، بل ليغسلك.. كان يُشعرك أنك مهما بعدت، فإنك أقرب.

صوته لا يُدينك، بل يحتضنك، كما تفعل الأم حين يعود ابنها من التيه.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !
صوت (محمد رفعت) لا يحتاج إلى هندسة صوتية، لأنه مُهندس في ذاته

لا يُشبه إلا نفسه

يُقال إن الشيخ (محمد رفعت) كان يبدأ ترتيله بدعاء: (اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا).. دعاء بسيط لكن صدقه كان يفتح أبواب السماء؛ وكأن هذا الدعاء بالضبط هو مفتاح صوته، أو أنه القنديل الذي يُشعل في صدره النور ليبدأ العروج بالآيات.

ما إن يدعو، حتى يتحوّل صوته إلى جناح من نور، يرفع من يسمع، ويهبط به في مواضع الحكمة، ويأخذه معه إلى الأعالي ثم يتركه عند حافة الرضا.

في زمنه، لم تكن التسجيلات على قدر ما يحمل صوته من حضور؛  كانت الميكروفونات باهتة أمام جلال النغمة، والأسطوانات ضيقة على سعة النور، ومع ذلك، كل ما وصل إلينا من تسجيلات لا يزال نابضًا، حيًا، كما لو كان يُرتل الآن.

 هذا لأنه لم يكن يعتمد على تقنية، بل على صدق، فصوت (محمد رفعت) لا يحتاج إلى هندسة صوتية، لأنه مُهندس في ذاته، مشغول بأنامل الروح.

تخيل لو أن الشيخ (محمد رفعت) عاش في عصرنا هذا، ما الذي كان يمكن لصوته أن يصنعه في قلوبنا عبر كل تلك المنصات الرقمية؟ ولكن مهلاً.. هل كانت قلوبنا قادرة على الاستماع؟ أم أن الضجيج غطّى على الاستقبال؟ التقنية كانت ستجمّل الصوت، لكنها لم تكن لتزيده روحًا، لأن الروح لا تُصنع، بل تُوهب.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !
كان صوته نفسه هو النور

حين قرأ النور النور

وكأن الكون بأسره كان ينتظر تلك اللحظة؛ حين بلغ الآية: (الله نور السماوات والأرض..)، كان صوته نفسه هو النور.

 لم يكن يقرؤها، بل كان يتوهج بها.. تشعر وكأنك ترى ما لا يُرى، وتبصر بعين القلب تجليات النور الإلهي.. تلك اللحظة ليست مجرّد أداء، بل تجربة وجودية، يُستخرج فيها النور من الحروف كما يُستخرج الذهب من الصخور.

ليس عجيبًا أن تكون هذه السورة هى مفتاح سره.. فهو الذي فقد نور العين، ليكون حاملًا لنور من نوع آخر.

 كأن الله أراد أن يجعل منه شاهدًا على أن النور لا يُرى فقط، بل يُسمع.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !
لم يكن ذلك زهداً مصطنعًا، بل إيمانًا عميقًا بأن القرآن لا يُقرأ للتجارة

الزهد لم يُطفئ الوهج

كان بإمكان الشيخ (محمد رفعت) أن يركب موجة الشهرة، أن يجني المال، أن يُسافر ويُسجّل ويُذاع في أنحاء الدنيا، لكنه لم يفعل.. لم يكن ذلك زهداً مصطنعًا، بل إيمانًا عميقًا بأن القرآن لا يُقرأ للتجارة، وأن الصوت لا يُباع.

رفض أن يُرتل للإذاعة البريطانية أثناء الاحتلال، وقال كلمته التي حفرتها الأيام في ذاكرة النقاء: (لن أقرأ القرآن على أرض مغتصبة).

لم يكن يُريد شيئًا من الدنيا، ومع ذلك منحته الدنيا قلوب الناس، ومحبة لم تُزحزحها الأيام.. عاش كما يعيش الغرباء، الذين لا تشبههم الأرض، ومضى كما يمضي الطيبون، بلا ضجيج، تاركًا خلفه أثرًا من الضوء.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (محمد رفعت).. حين يرتّل القلب !
ما يميز الشيخ (محمد رفعت) أنه لم يكن يُرتل بلسانه فقط.. كان قلبه هو الذي يُرتل

حين يُرتل القلب لا الحنجرة

ما يميز الشيخ (محمد رفعت) أنه لم يكن يُرتل بلسانه فقط.. كان قلبه هو الذي يُرتل.. كل نغمة كانت صدى لتجربة، وكل آية كانت بصيرة قبل أن تكون بصوت.

وحين تسمعه، فإنك لا تُصغي فحسب، بل تُشفى.. كأن صوته علاج روحي، يربطك بنفسك، ويُذكرك بما كنت عليه قبل أن تسرقك الأيام.

حين تسمعه، تشعر أنك جالس في مسجد صغير، ربما على حصير، تحت قبة لاتراها، لكنك تحسها.. والنجوم فوقك تُصغي معك، لأن هذا الصوت لا يُخاطب البشر فقط، بل يخاطب كل ما في الوجود من صدى.

نحن اليوم بحاجة إلى صوت يشبه (محمد رفعت).. لا فقط ليعيدنا إلى القرآن، بل ليعيدنا إلى أنفسنا.. صوته يوقظ فينا النور القديم، النور الذي سكناه يومًا ونسيناه.

هو صوت يُعلّمنا أن الجمال لا يحتاج إلى زينة، وأن القداسة لا تحتاج إلى منصات.

هو شاهد حيّ على أن الإنسان، حين يُخلص، يصبح صوته صلاة، ونغمة من السماء.

هذا الصوت لا يموت، لأنه لم يكن من الأرض أصلاً.

لا يزال، رغم مرور السنوات يتردّد في الأرواح كما يتردّد الأذان على المآذن.. هو ليس ذكرى، بل حاضرٌ دائم، حضورٌ لا يحتاج إلى زمن.

إنه الصوت الذي إذا سكنك، أنار فيك الطريق، وربطك بحبل لا ينقطع بينك وبين السماء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.