رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(تحت الأرض).. حين تتحول الدراما إلى فن عابر للزمن

منذ اللقطة الأولى، يفرض (تحت الأرض) إيقاعه الخاص

بقلم الكاتب السوري: حسام أحمد

هناك أعمال تُشاهد، وأعمال تُحفر في الذاكرة، وأعمال نادرة تصبح جزءًا من وعي المشاهد، تتسلل إلى لاوعيه، وتعيد تشكيل نظرته إلى الدراما ككل (تحت الأرض) ينتمي إلى الصنف الأخير، ليس لأنه إنتاج ضخم أو يحمل أسماء لامعة، بل لأنه تجربة سينمائية متكاملة وجرأة سردية نادرة في الدراما العربية.

إنه (تحت الأرض) ليس مجرد مسلسل رمضاني، بل هو مشروع فني يعيد تعريف الهوية الدرامية السورية، متجاوزًا حدود الترفيه إلى منطقة الفن الصافي، حيث يصبح كل تفصيل مرآة تعكس روح العصر والمجتمع والإنسان.

لا يقدم صورة استهلاكية، ولا يلعب على وتر النوستالجيا الرخيصة

حين تلتقي الدراما بالميتافيزيقا: هل نشاهد المسلسل أم نعيشه؟

منذ اللقطة الأولى، يفرض (تحت الأرض) إيقاعه الخاص.. لا يقدم صورة استهلاكية، ولا يلعب على وتر النوستالجيا الرخيصة، بل يبني عالماً متكاملاً من التفاصيل الحسية التي تشدك إليها وكأنك جزء منها.

دمشق ليست مجرد خلفية للأحداث، بل كيان حي يتنفس في كل زاوية، الأزقة ليست ممرات، بل سرديات بصرية، والظلال لا تعكس الضوء فقط، بل تحكي قصصًا مخبوءة.

هنا، لاتُعرض الأحداث كحكاية خطية بل كنسيج معقد من المشاعر والمصائر. الكاميرا لا توثق، بل تتجول كعين ثالثة، تستكشف الطبقات المخفية خلف الشخصيات، تراقب عن كثب تلك اللحظات الهامسة التي تسبق الانفجار، وتجعلنا نشعر أننا لا نرى (تحت الأرض) مجرد مسلسل، بل نعيش تجربة حسية تتسلل إلى لاوعينا.

الكتابة في (تحت الأرض) ليست مجرد أداة لتحريك الأحداث

النص: حيث تتصارع الفلسفة مع الحتمية

الكتابة في (تحت الأرض) ليست مجرد أداة لتحريك الأحداث، بل أداة تحليلية تشريح المجتمع من الداخل.. الحوارات ليست مجاملات، بل ضربات موجعة تكشف هشاشة القيم، والصراعات ليست مجرد تنافس على السلطة، بل انعكاس لتصادم الحتمية مع الإرادة الحرة.

العمل يتعامل مع الشخصيات ككائنات نفسية معقدة، لا كرموز نمطية., لا يوجد خير مطلق أو شر مطلق، بل بشر تتقاذفهم غرائزهم ومخاوفهم. لا أحد هنا بريء تمامًا، ولا أحد مذنب بالكامل. الشخصيات في (تحت الأرض) لا تمثل فقط أدوارًا داخل القصة، بل هي استعارات لأفكار أكبر: الصراع بين الحداثة والتقاليد، بين الفرد والجماعة، بين الهوية والتغيّر.

العمل يطرح تساؤلات وجودية دون أن يعطي إجابات سهلة.. ماذا يعني أن تكون قويًا؟، هل السيطرة تعني النجاة؟، هل يمكن الهروب من المصير أم أن كل طريق يؤدي في النهاية إلى الهاوية نفسها؟، هذه ليست مجرد حبكة، بل تأمل فلسفي مغلّف بذكاء درامي عالٍ.

لا يمكن الحديث عن (تحت الأرض) دون التوقف عند الأداء التمثيلي الذي تجاوز حدود الحرفة

الأداء التمثيلي: حين يصبح الممثل جزءًا من النسيج النفسي للعمل

لا يمكن الحديث عن (تحت الأرض) دون التوقف عند الأداء التمثيلي الذي تجاوز حدود الحرفة إلى التجسيد النفسي العميق. مكسيم خليل لا يؤدي دورًا، بل يتقمّص وجودًا آخر، ينقل توترات الشخصية ليس فقط بالكلمات، بل بكل تفصيلة جسدية، بكل صمت، بكل رمشة عين تحمل حكايات غير منطوقة.

(سامر المصري) يقدّم شخصية تعيش على حافة التناقضات، (روزينا لاذقاني) تعيد تعريف الأنوثة كقوة ناعمة ولكن مدمّرة، (فايز قزق وأحمد الأحمد) يقدّمان دروسًا في الأداء الذي لا يعتمد على المبالغة بل على الاقتصاد المدروس في التعبير، ما يجعل كل لحظة تنفجر بطاقة درامية مكثّفة.

هنا، لا نرى ممثلين يلعبون أدوارهم، بل نرى شخصيات تعيش أمامنا، كل مشهد هو اختبار لأقصى طاقات الأداء التمثيلي، حيث لا مساحة للابتذال، ولا مكان للحظات الحشو.

(تحت الأرض) لا يُشاهد مرة واحدة، بل يُعاد مشاهدته

(تحت الأرض): دراما لا تُشاهد بل تُحلَّل

في زمن أصبحت فيه الدراما العربية أسيرة التكرار والنمطية، يخرج (تحت الأرض) عن هذا السياق ليقدّم تجربة تشبه الأعمال العالمية التي لا تخاطب فقط المشاعر السطحية، بل تغوص عميقًا في الأسئلة الكبرى للوجود الإنساني.. إنه ليس عملاً عابرًا في السباق الرمضاني، بل بيان فني يعيد تعريف العلاقة بين الصورة، السرد، والفكر.

(تحت الأرض) لا يُشاهد مرة واحدة، بل يُعاد مشاهدته، لا لأنه ممتع فقط، بل لأنه عمل يمنح المشاهد فرصة لاكتشاف طبقات جديدة في كل مرة. إنه ليس مجرد دراما، بل هو استعارة بصرية لعالم يموج بالصراعات، حيث يصبح كل مشهد بمثابة نافذة تطل على تعقيدات النفس البشرية.

إذا كنت تبحث عن عمل خفيف لملء الوقت، فهذا المسلسل ليس لك.. لكن إن كنت مستعدًا لمشاهدة عمل يتحدّى وعيك، ويترك أثرًا طويل الأمد في ذاكرتك، فإن (تحت الأرض) ليس مجرد محطة درامية، بل لحظة فارقة في تطور الدراما السورية والعربية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.