

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
لست أدردي من هو ذلك المجرم، فاسد الأخلاق، الذي يطلق العنان لأمثال هؤلاء المؤلفين من الجهلاء ومحدودي التفكير؟، مثل المخرج (محمد سامي) وغيره من مؤلفي ومخرجي الغبرة، كي يغتالوا لـ (البيئة الشعبية)، فيلبسونها ثوبا غير ثوبها الحقيقي، بعدما كانت مثالا للتمسك بالقيم والعادات والتقاليد التي كان يحتذى بها!
هؤلاء من كتبة هذا الزمن الرديئ في إبداعه الفقير في محتواه، يبدو لي أنه لم يتربى أي منهم في (البيئة شعبية) كي يشعر بدفء المشاعر وسلامة الأخلاق القويمة التي يتربى عليها الشعبيون، على قدر فقرهم وحياتهم البائسة أحيانا، ومن ثم فهم لايشعرون بالمكان والزمان الذي كانت عليه (البيئة الشعبية)، حتى ملامح البطل الشعبي هم بعيدون كل البعد عن طبيعته وأخلاقه.
كانت صورة البطل في (البيئة الشعبية) الدراما التلفزيونية – قبل عقدين من الآن – تركز على ذلك الشخص الذي يدافع عن حق مهدور، أو يسعى لاستعادة حياة ناعمة نزعتها الظروف الاجتماعية منه.
وكانت تلقى تلك الشخصية الإشفاق وتحظى بالتعاطف بين جمهور المتلقين قديما، واليوم نشاهد في الكثير من الأعمال الدرامية التي تركز على (البيئة الشعبية) نفس البطل الذي يمارس أعمال البلطجة في الحارة بقوته الجسدية وألفاظه التي تجافي الذوق.
فضلا عن قدرته الخرافية في الخروج على القانون، والاتجار في المخدرات، والعنف ضد المرأة، والعنف اللفظي.. صور كثيرة لنماذج في العديد من المسلسلات تجرح المشاهد وتشوه صورة المجتمع في دراما هذا العام وغيره من أعوام سابقة تشهد على الانحدار الأخلاقي في (البيئة الشعبية).

محمد سامي.. أسطورة البلطجة
هذه الصور أصبح لها حضورها القوي على الشاشة الصغيرة، وتتداول عبر فيديوهات قصيرة على (يوتيوب) ومواقع التواصل الاجتماعي، ويقلدها بعض أفراد المجتمع، فلا يزال مشهد الممثل المصري محمد رمضان الذي اقتص من أحد أعدائه في مسلسله (الأسطورة) الذي عرض في دراما رمضان 2016، عالقاً بأذهان المشاهدين.
حيث كان هناك شخص صور زوجته وترصد لها، ونشر صورها على مواقع الإنترنت، فانهال عليه البطل ضربا وألبسه رداء لا يصلح إلا للنساء، الأمر الذي أصاب بعض المشاهدين بالصدمة، حتى أن البعض تأثر به في الواقع واتبعه كأسلوب عقاب في الشارع المصري.
ولعل هذا المشهد الذي يعبر عن غياب القانون واللجوء للقوة الشخصية جزء من عشرات المشاهد التي تعبر عن نماذج ضارة لا تخدم المجتمع.
جانبا من هذا تكرر في مسلسلات (محمد سامي) – رائد واقعية العنف والعشوائية القائمة على البلطجة – هذا الموسم الرمضاني، في مسلسلي (سيد الناس، وإش إش)، ناهيك عن الألفاظ البزيئة والإيفيهات التي تنال ملامح البطل في (البيئة الشعبية).
فيمثل حضوره على الشاشة أمامنا قمة القبح بعينه في ملامح إنسان يفتقد للشهامة ومقاومة الظلم الواقع على أهل حارته، فقط نراه نموذجا للتحدي في الخروج القانون.
نماذج أخرى من مسلسلسلات العنف والعشوائية التي تضرب عرض الحائط بقيم (الحارة الشعبية)، مثل (العتاولة، فهد البطل، حكيم باشا)، فالمشاهد لهذه الأعمال لابد وأن يصادفه موت المشاعر والعلاقات الإنسانية لتحل محلها عوالم الجريمة والأجواء المشحونة بالغضب ضمن أوساط اجتماعية محرومة من كل ما تشاهده من رفاهية على الشاشة وحالمة بالثروة.
وتحسد ما يتمتع به السارق من ذكاء وسرعة بديهة، بجانب قدرته على رفع مستوى (الأدرينالين) لدى الجمهور؛ الأمر الذي يزيد من التعاطف مع اللصوص، وتبرير انسياقهم وراء الجريمة، كما أن النساء صرن بدورهن أشبه بفتيات جيمس بوند: جمال بملامح شريرة، غواية لا حدود لها، ومنافسة للذكور في حب المال والسطوة، فلا رقة ولا مشاعر ولا حنان ولا من يحزنون.
ترى، ما الذي جعل الدراما الإنسانية المستمدة من (البيئة الشعبية) التي ينبغي أن تغوص في أعماق الذات البشرية وتهتم بصراع القيم والمشاعر، تنزاح لتترك مكانها إلى لغة العنف، كما لو كنا في مجتمعات مافيا المال والجريمة المنظمة، في حين أن الأسرة العربية مازالت متماسكة ومحافظة على قيمها الأخلاقية والروحية؟
يبدو أن العنف سيكون هو العنوان المحوري للنسبة الأكبر من إنتاجات الدراما التلفزيونية في الفترة القادمة، فبعد سنوات من هيمنة القصص والحكايات العاطفية والرومانسية، ها هى ظاهرة الأعمال الدرامية التي تعتمد موضوع (العنف) تجتاح القنوات والمنصات التلفزيونية العربية.

معضلة الفن الأعمى
لقد كانت التلفزيونات الرسمية والخاصة تتحفظ على مشاهد العنف، ولكن سرعان ما تغير مزاج المشاهد تأثرا بالنسبة الأكبر من الأعمال السينمائية والتلفزيونية القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وشرق آسيا.. حيث (تيمة) العنف هى الحاضر الأساسي.
ويصدر المسلسل المعبر عن (البيئة الشعبية) معضلة الفن الأعمى، الفن الذي يفتقد للغاية والقدوة ونموذج البطل، وأكثر ما يمكن أن يضرب منطق العمل في مقتل، وما يشابهه من أعمال تسلط الضوء على توظيف البلطجة وتبرير شق طريق الإنسان في المجتمع المصري عبرها.
يا صناع الدرما المصرية: مصر في حاجة لإعادة تشكيل وبناء الشخصية القومية بعد كل التشويه الذي تتعرض له من خلال آليات تشكيل البطل المضاد، القائم على العنف والبلطجة والفساد.
ربما يكون المجتمع المصري قد حظي بعدة جرائم مروعة وقعت في الفترة الأخيرة، ومن ثم يجب أن تشغل تلك الظاهرة علماء الاجتماع والدراسات الإنسانية، وفي الواقع كانت العديد من الأصوات قد حذرت من شيوع نموذج (البلطجي) معتاد الإجرام في الدراما التلفزيونية والسينمائية المصرية خلال السنوات الماضية.
وقد لاحظت أن هذه الأعمال تعتمد على المنطق الاجتزائي من قلب (البيئة الشعبية)، أو سرقة مقطع محدود من الحياة الاجتماعية الواسعة وتحويله لمحور ومركز للكون في مصر، على عكس الواقع المفعم بالتدافعات وحلم معظم الطبقة الوسطى بالقيم الإنسانية العليا.
ولهذا تربط العديد من الدراسات العلمية بين الفن وصورة البطل التي تظهر به في (البيئة الشعبية)، وبين تشكيل وعي وثقافة الإنسان/ المشاهد، فقديما كان الإنسان يكتسب معارفه وثقافته عن طريق الأسرة والعائلة والأصدقاء والجيران والمدرسة بالخبرة والممارسة والاحتكاك.
لكن الدراما المصورة والأعمال السينمائية أصبحت من أكثر الآليات الاجتماعية المعاصرة إلحاحا وتكرارا وقدرة على تشكيل الوعي الجماعي، وربما يصف البعض العملية بغسيل المخ الجماعي وتوجيه السلوك المجتمعي.

بناء الشخصية القومية
إن مصر ياسادة في حاجة لإعادة تشكيل وبناء الشخصية القومية بعد كل التشويه الذي تتعرض له من خلال آليات تشكيل البطل المضاد، القائم على العنف والبلطجة والفساد ومنطق تبرير القبح والجريمة.
وبنظرة فاحصة وسريعة نحو المسلسلات المقدمة في موسم رمضان الحالي يظهر لنا تراجعا واضحا للدراما الاجتماعية، وذلك لصالح أعمال وصفها الكثير من النقاد بالهجينة والعصية على التصنيف، فإما أن تعج بالعنف والمطاردات والتحقيقات المتمحورة حول جرائم المخدرات والسرقة والفساد والدعارة بنكهة أميركية منتهية الصلاحية.
أو أن تكون مسلسلات تغازل الماضي، سواء كان قريبا أو بعيدا، علاوة على أعمال تقدم نفسها ككوميديا فانتازية أحيانا أو (عائلية) أحيانا أخرى، فلا نكاد نعثر على ما يضحك فيها سوى الأداء المتواضع والفكرة الباهتة، ونستثني من أعمال رمضان هذا العام مسلسل (النص) الذي قدم كوميديا راقية.
من المؤكد أن السينما المصرية والدراما التليفزيونية خلال تاريخهما لم يميلا للعنف بشكل عام وما قدمه الفن المصرى – خاصة السينما – عبر مائة عام من أعمال تتضمن عنفا لا يمثل سوى استثناءات من جملة الأفلام التى أنتجتها السينما فى حين لم تشهد الدراما التليفزيونية المصرية أعمالا تتسم بالعنف إلا فى السنوات القليلة الماضية.
وهذا ما جعل بعض علماء الاجتماع والنقاد الفنيين يحملون الدراما مسئولية كبيرة تجاه تنامى تلك الظاهرة، كما يبدو واضحا أن الأعمال السينمائية التى تفرط فى تقديم مشاهد عنف أو قسوة أو تجميل للشر أو انتصار لقيم البلطجة، والخروج على القانون، لها تأثير خطير على الشباب فى سن المراهقة.
ومن ثم لابد لنا من تقديم شخصية البطل المحبوب كنموذج خير ومحب للناس، ويتمتع بإحترام وهيبة من حوله يجعله فى النهاية أكثر قبولا وجاذبية للشباب المراهق.
وفي النهاية: هل يحاكم الجمهور دراما العنف في هذه الأيام، خاصة أن لها التأثير السلبي والسيئ على فئات المجتمع كافة؟، ومن المسؤول عن انتشار مثل هذه الأعمال، المنتج الباحث عن الربح، أم المخرج الباحث عن الإثارة، أم الفنان الباحث عن الشهرة والانتشار..؟
تساؤلات تبحث عن إجابة وافية بعد أن تم وضع الجميع في قفص الاتهام، دون استثناء..!، والآن ما رأي المجلس الأعلى للإعلام من كل تلك الظواهر السلبية التي تضر بالمجتمع وتنسف قيمة وتعلى من شأن البطل البلطجي الغارف في براثن العنف والتردي.