
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في الليالي الرمضانية، حين تهدأ الأصوات وتكتسي القاهرة بثوبها المسائي، كان صوتٌ واحد يعلو فوق كل الأصوات هو صوت (زوزو نبيل)
صوتٌ يعرفه الغني والفقير، العاشق والساهر، الطفل والمسن..
صوت ينساب من جهاز الراديو كأنه تعويذة سحرية تفتح أبواب الخيال..
(بلغني أيها الملك السعيد.. ذو الرأي الرشيد)..
إنها (زوزو نبيل)..

ملكة الحكايات
(شهرزاد).. التي أسرت الميكروفون، وأطلقت العقول في دروب ألف ليلة وليلة.
البداية من وراء الحجاب..
لم تولد (زوزو نبيل) أميرة في قصور بغداد، بل خرجت من قلب حي شبرا الشعبي.
اسمها الحقيقي (عزيزة إمام حسين)..
فتاة بسيطة نشأت في كنف أسرة محافظة، لم يكن لها من الدنيا سوى صوتها الحنون وأحلامها البعيدة..
كانت تحلم بالمسرح، بالفن، بالحياة التي تُحكى لا التي تُعاش.,
لكن القدر أدار لها ظهره مبكرًا…
توفي زوجها وهي في ريعان شبابها، فوجدت نفسها أماً وحيدة لطفلها الوحيد (نبيل).
حين كتب طاهر أبو فاشا الحكاية..
لم تكن (شهرزاد) وحدها سر نجاح ألف ليلة وليلة..
بل كان هناك قلم ساحر خلف الستار..

طاهر أبو فاشا
الشاعر الذي حول الليالي إلى نصوص عاشقة، ناعمة، تتهادى فوق أجنحة الخيال.
لم يكتب مجرد حكايات…
بل كتب موسيقى خفية تسري في الكلمات.
كان يلتقط الحروف كما يلتقط العطار روائح العطور النادرة…
يمزجها..
ويصبها في قوارير الحكايات..
وكانت (زوزو نبيل) هي الأداة التي نفخت في تلك الكلمات روحًا خالدة.
بدأت (زوزو نبيل) رحلتها فوق خشبة المسرح، ثم امتدت إلى السينما..
لكن صوتها كان يحمل سرًا أكبر من عدسات الكاميرا.
ذات مساء من عام 1954، طرق بابها صوت ساحر آخر..
بابا شارو..
الذي اختارها لتكون (شهرزاد) في أضخم عمل إذاعي عرفته مصر.
ومنذ الليلة الأولى، لم تعد عزيزة إمام حسين المعروفة بـ (زوزو نبيل)..
بل أصبحت شهرزاد التي تخترق الأسماع وتلامس الأرواح.

محراب الحكايات
في أحد استوديوهات الإذاعة، تحت ضوء أصفر خافت، كانت (زوزو نبيل) تجلس وحدها أمام الميكروفون..
أوراق الحكايات أمامها..
وبابا شارو خلف الزجاج..
وخلفهما القاهرة كلها تنتظر..
كان النص بين يديها مطبوعًا بحروف طاهر أبو فاشا..
تقرأ في البداية بهدوء:
(بلغني أيها الملك السعيد)..
ثم يتسلل السحر شيئًا فشيئًا..
تارة يهبط الصوت كهمسة عاشقة..
وتارة يعلو كصهيل خيول في ساحات المعار…
وتارة ينكسر كأنها تبكي بين الكلمات.
لم يكن سحر (زوزو نبيل) في النبرة وحدها..
بل في ما أخفته خلف تلك النبرة.
قالت في أحد لقاءاتها:
(أنا ماكنتش بحكي لشهريار.. أنا كنت بحكي لابني نبيل)..
ربما لهذا السبب كان صوتها دافئًا كحضن الأم..
غاضبًا كزوجة مهجورة..
ومخيفًا كعرافة تعرف أسرار القدر.

الحكاية التي لا تموت
في كل حكاية، كانت (زوزو نبيل) تعيد ترتيب العالم..
حين تحكي عن الحب، كانت الكلمات تتراقص على لسانها كجواري في قصر السلطان.
وحين تروي عن الخيانة، كانت نبرتها تصدح كالسيوف في ساحات القتال.
أما عندما تحكي عن الموت، كان صوتها ينخفض حتى يكاد يهمس في آذاننا..
(وأدرك شهرزاد الصباح.. فسكتت عن الكلام المباح).
لكن أحدًا لم يكن يريدها أن تسكت..
على مدار أكثر من 25 عامًا، ظلت (زوزو نبيل) تسكن الأثير..
لم ترها العيو…
لكن صوتها صار من علامات رمضان…
كان الراديو نفسه يبدو وكأنه ينتظر صوتها كل ليلة.
حتى بعد أن رحلت..
ظل صوتها عالقًا في سماء القاهرة..
يندس بين أرغفة الفول الساخنة..
ويتمايل مع فناجين الشاي…

في حضرة شهرزاد
ذات ليلة في منتصف الثمانينات، جلس الصحفي الكبير (مصطفى أمين) في الإذاعة ليسجل برنامجًا جديدًا.
عندما انتهى التسجيل، سأل المهندس الصوتي:
مين اللي كانت بتتكلم من شوية؟
دي (زوزو نبيل) يا أستاذ مصطفى.
لسه شهرزاد بتحكي؟
شهرزاد ما بتسكتش يا أستاذ مصطفى…
في عام 1996، أطفأت القاهرة مصابيحها لتودع زوزو نبيل.
لكن الحقيقة أن شهرزاد لم تمت أبدًا.
كلما هلّ رمضان..
وخفقت قلوب العشاق..
وجلست الأسر حول الراديو…
عاد الصوت من العدم:
(بلغني أيها الملك السعيد… ذو الرأي الرشيد)..
علمتنا زوزو نبيل أن الحكاية ليست مجرد كلمات…
بل وطن سري نحتمي به من قسوة العالم.
علمتنا أن كل حكاية تبدأ بدمعة..
وتنتهي بحكمة…
وأن الصوت إذا صدق..
يعيش أبديًا في قلوب الناس.
هل تسكت شهرزاد؟
الآن، في ليالي القاهرة الحديثة..
بين زحام السيارات وصخب التلفزيونات..
قد يبدو صوت زوزو نبيل كطيف بعيد…
لكن..
في لحظة ما..
عندما ينخفض الضوء…
وتهدأ الأنفاس..
سيعود الصوت من جديد…
(وما الحكاية يا مولاي… إلا مرآة نرى فيها وجوهنا..
كلما قصصناها، عاد العمر من جديد).