

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
فاجأ الرئيس الأمريكي (ترامب) متابعيه على حسابه (تروث سوشيال) وعلى صفحته الرسمية بـ (إنستجرام) بمقطع فيديو بالذكاء الاصطناعي (غزة ترامب) عن (ريفيرا غزة)، رغم حديثه المتكرر أخيرا عن تراجعه عن خطته بالخصوص، ووفق وسائل الإعلام الإسرائيلية.
نشر (ترامب)، مقطع مصور على حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي (تروث) يعرض فيه كيف سيبدو قطاع غزة، مع أغنية خاصة للمقطع، وقد حصد الفيديو أكثر من 10 ملايين مشاهدة منذ أن نشره (ترامب) عبر حسابه.
يعرض الفيديو مستقبلا افتراضيا لقطاع غزة، انتقالا من صور الدمار التي يشهدها القطاع في السنة الجارية 2025، ومن ثم يبدأ المقطع بصورة كئيبة للوضع الحالي في غزة المدمرة، ويظهر فيه مسلحون يوجهون أسلحتهم إلى أطفال غزة، دون تحديد هويتهم.
لكن المقصود عناصر حماس، وفي وقت لاحق، تظهر عبارة (ماذا بعد؟)، ويستمر الفيديو في رسم مستقبل غزة، بعد تحقيق رؤية (ترامب) للهجرة والإخلاء الطوعي وإعادة إعمار القطاع، الذي قال الرئيس إنه يمكن أن يكون (ريفييرا الشرق الأوسط).

نمبر وان
بحسب الإعلام الإسرائيلي، يظهر أطفال غزة وهم يركضون على شاطئ غزة، بجوار الفنادق الشاهقة، والسوق المزدحم، بينما في الخلفية، تردد الأغنية، التي تم إعدادها أيضًا باستخدام الذكاء الاصطناعي، كلمات عن تميز هذا المسار، وفي أحد الكاردات، يظهر مدخلًا لفندق فخم يحمل أسم (غزة ترامب – Trump Gaza).
وينتهي المقطع بصورة تظهر (ترامب) ورئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) مستلقين على سرير شمسي على الشاطئ، ويظهر عليه اسم الفندق الذي يحمل اسم (ترامب)، إلى جانب نهاية الأغنية الجذابة: (غزة ترامب .. نمبر وان)، كما يظهر في الفيديو الصديق المقرب للرئيس، إيلون ماسك، ويظهر، من بين أمور أخرى، وهو يأكل الحمص.
وفي وقت لاحق من المقطع المصور، يصبح قطاع غزة مدينة حديثة وسعيدة تشبه دبي، ويظهر خلالها راقصات شرقيات، (بعضهن بلحى، في صورة تحقيرية وساخرة من العرب والمسلمين)، وأطفال غزة وهم يركضون فرحين على الشاطئ، ومن خلفهم الفنادق الشاهقة الفخمة.
كما يظهر هناك تمثال ذهبي كبير للرئيس الأمريكي تحت سماء غزة تمطر أوراقا نقدية من الدولارات، وفي خلفية كل هذا، تعزف مرة أخرى الموسيقى الإيقاعية مع أغنية (غزة ترامب – رقم 1) والتي تم إنشاؤها أيضًا بواسطة الذكاء الاصطناعي.
وتقول: (دونالد ترامب) سيحرركم، ويجلب الحياة للجميع، لا أنفاق ولا خوف بعد اليوم، (غزة ترامب) هنا أخيرا.. (غزة ترامب) تتألق بمستقبل ذهبي وحياة جديدة.. احتفلوا وارقصوا، المهمة أنجزت، (غزة ترامب رقم واحد)

شركاء الجريمة بعيون فرنسية
من جانبها وصفت الصحافة العالمية تصور الرئيس الأمريكي للقطاع المدمر في عالمه الخاص أنه بعيد كل البعد عن الواقع الذي يزداد مأساوية، وسط تعنت صهيوني يحول دون إتمام الاتفاق مع حركة (حماس)، والذي من شأنه إنهاء حرب مدمرة أتت على كل ما هو حي في القطاع.
ووفقا لصحيفة (ليبراسيون) الفرنسية، فإن الفيديو الشنيع الذي يُظهر غزة وهى تتحول إلى (ريفيرا)، هو عمل ثنائي لمخرجين أمريكيين، وقابلت أحدهما، فأكد لها أنه لم يتخيل قط أن الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) كان سيتناول عملهما على حسابه على منصته (تروث سوشيال).
مؤكدة على أن المعلومات تشير إلى أن أحد المطورين للفيديو، باستخدام الذكاء الاصطناعي، نشر توضيحات بشأنه على منصة (إنستجرام) لكن ما نشره تم حذفه.
ويبدو أن الصحيفة تمكنت من الاطلاع عليه، إذ ذكرت أنه قال في منشوره الأول: أريد أن أتوقف لحظة لتوضيح أصل مقطع الفيديو المنتشر (ترامب غزة)، لقد تم تطويره بواسطة فنان عظيم، هو شريكي كعمل ساخر، وفي منشور آخر على موقع (إنستجرام)، تم حذفه كذلك، وادعى (أرييل فرومين) أنه شارك في تصميم مقطع الفيديو الذي لقي رواجا واسعا للغاية.
وقد لاحظت (ليبراسيون) أن هذا الفيديو، الذي أعيد نشره في وسائل الإعلام حول العالم، لا يظهر الآن لا في حساب أرييل فرومين (138 ألف مشترك)، ولا في حساب سولو أفيتال (10 آلاف مشترك)، ولا حتى على صفحة (آي ميكس فيجوالز).
وبحسب الصحيفة فإنه لا شك أن هذين الشخصين هما اللذان طورا فيديو (غزة ترامب)، إذ تقول إن (أرييل فرومين) و(سولو أفيتال) زوداها بصور جلسة تحرير الفيلم الخاصة بهما، والتي تظهر تجميع لقطات التمثال الذهبي العملاق للرئيس الأمريكي أو (إيلون ماسك) وهو يرقص تحت مطر من الأوراق النقدية عندما يأكل الحمص على شاطئ غزة.
موضحة أن (أرييل فرومين) و(سولو أفيتال) ليسا مجهولين، بل هما صديقان لهما مسيرة مهنية رائعة في هوليود وملف شخصي شهير على موقع (آي إم دي بي كي)، فأرييل فرومين، 52 عاما، هو مخرج وكاتب سيناريو أمريكي من أصل إسرائيلي، ولد في ضواحي تل أبيب ويعيش الآن في كاليفورنيا، وقد أخرج نحو 10 أفلام، بما في ذلك فيلم (رجل الجليد) مع (راي ليوتا) و(جيمس فرانكو).
أما (شريكه في الجريمة) على حد تعبير (ليبراسيون)، فهو (سولو أفيتال) وهو مهندس وفنان ومخرج متخصص في التكنولوجيا الرقمية، يبلغ من العمر 57 عامًا وقد بدأ مسيرته المهنية في مجال الأفلام ثلاثية الأبعاد في ستوديوهات (بابلسبيرج) السينمائية في برلين.
قبل أن يصنع العديد من الأفلام الوثائقية في إسرائيل، بما في ذلك فيلم (أكثر من 1000 كلمة) الذي يتابع فيه المصور الصحفي (زيف كورين)، الذي وثق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وعمليات الجيش الإسرائيلي، وهوايته الحالية هي: استكشاف قوة الذكاء الاصطناعي.
وفي مكالمة هاتفية مع الصحيفة، يتذكر (أرييل فرومين) أنه قرر بعد أن سمع ترامب يتحدث عن استيلائه على غزة يوم 4 فبراير الاتصال بشريكه وعرض عليه أن يجسدا هذه الفكرة المذهلة في شريط فيديو.
وأضاف أنهما كانا قد قاما بالفعل بإعداد مقطع فيديو ساخر باستخدام الذكاء الاصطناعي عن (جافين نيوسوم)، حاكم كاليفورنيا الديمقراطي، وإدارته للحرائق، مشيرا إلى أنهما استخدما أداة جديدة هي (أركانا)، والتي توفر اتساقًا جيدًا للغاية في الشخصية.
ويقول (أرييل فرومين) إنه على الرغم من أنه نشر الفيديو لفترة وجيزة على حسابه على موقع إنستجرام في 6 فبراير، فإنه قام بحذفه بسرعة ولم يكن لديه أي نية لتداوله، ليتفاجأ في 26 فبراير بأن ترامب نشره على حسابه دون أي تعليق ودون ذكر لمن طوره.
ويوضح (فرومين) أنه متفق مع (ترامب) في رؤيته لما ينبغي أن يُفعل بأهل غزة كي يخرجوا من الدمار الذي لحق بهم، لكنه كان يود لو أن الرئيس الأمريكي احترم حقوق النشر.

لن نترك الأرض
فور نشر (ترامب) للمقطع، دون إرفاقه بأي تعليق، حتى تداوله النشطاء ورواد المنصات الاجتماعية على نطاق واسع، وسط تنديدات وسخط لاستخفاف (ترامب) بالمعاناة التي يعيشها القطاع،إذ علق العديد من أهل غزة على المقطع المصور في منشورات متلاحقة عبر وسائل التواصل الإجتماعى المختلفة.
منهم (أيمن أبو رضوان)، أحد النازحين في غزة، الذى عبر عن موقفه الرافض لهذه المخططات، مؤكدا أن: (الفلسطينيين يحبون الحياة ويطمحون لمستقبل أفضل، لكن ليس بهذه الصورة والفيديو الذي يروّج له ترامب، الذي يتنافى مع الأسس والقيم الإنسانية التي خُلقنا من أجلها).
ويضيف (أبو رضوان): (نرفض أن نُعامل كمجرد أرقام أو قطعان تُقاد نحو مخططات تُرسم لنا دون إرادتنا. نحن لا نغادر أرضنا إلا بإرادتنا، وإذا خرجنا، فسنخرج لنُعمّر ونبني مستقبلا أفضل، وليس كضحايا لمشاريع سياسية مشبوهة).
ويرى المواطن أن الحل لا يكمن في فرض واقع جديد عليهم بل في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ودعم حقوق الفلسطينين المشروعة بإقامة دولة فلسطينية، ويقول (أبو رضوان): (العالم المتحضر لا يجبر أحدا على ترك أرضه بهذه الطريقة المهينة.
نحن شعب مثقف، لدينا طاقات شبابية متعلمة، لا نفعل شيئا سوى أن نتعلم أو نناضل لإنهاء الاحتلال، فلماذا يُترك الاحتلال ليستمر بدلا من دعمنا لنيل حقوقنا؟، وفي تعبير رمزي عن تمسكه بوطنه، حفر (أبو رضوان) وشم (مفتاح العودة) على يده، في إشارة إلى حق العودة الذي يتمسك به الفلسطينيون في الداخل والخارج.
ويختتم حديثه قائلا: (كما أفشلنا صفقة القرن التي كان بطلها ترامب، سنفشل أيضا كل مخططات التهجير الجديدة).
من جهته، يؤكد (ناهض أبو الكاس)، أحد سكان غزة، رفضه القاطع لكل ما يروج له ترامب وغيره من السياسيين حول مستقبل القطاع، مشددا على أن “هذه التصريحات فارغة من مضمونها ولا تمثل أهل غزة بأي شكل من الأشكال.
ويضيف (أبو الكاس): لا يهمني أين أعيش، سواء في خيمة أو في الشارع، الأهم أنني موجود في بلدي وعلى أرضي. لا شيء يمكن أن يدفعنا للخروج منها، ويشير إلى أنه “مهما حاول ترامب أو أي دولة أخرى فرض واقع جديد، فلن نغادر.. لا يوجد مكان في العالم أجمل من هذه الأرض، ولن نستبدلها بأي مكان آخر).
كذلك الناشط (خالد صافي) أعتبر من جانبه أن هذا الفيديو يعكس (عقلية المستعمرين عبر التاريخ)، متسائلا: (إلى متى ستظل فلسطين قضية تُساوَمُ عليها؟ ومتى يتحرك القانون الدولي لمنع إعادة كتابة التاريخ بمجازر جديدة؟.
في حين وصف الناشط (تامر)، عبر منصة (إكس) الفيديو بـ (المهزلة) مشيرا إلى أن ترامب يتخيل غزة بعد امتلاكها، حيث يظهر في المشهد فندق ترامب، وإيلون ماسك يتناول الطعام العربي على الشاطئ، وسط أجواء احتفالية تخفي خلفها واقعا من الدمار والتهجير القسري.
كما علق أحد المغردين قائلا : (الفيديو كارثي ويدل على نظرة ترامب ومدى استخفافه بكل العالم، كما أشار مغردون إلى أن غزة ستظل “حائط الصد الذي تتحطم عليه أحلام الإسرائيليين ومن يدعمهم)، مؤكدين أن صمودها أفشل العديد من المخططات السابقة، وما زالت تقاوم بدمائها في وجه مشاريع التهجير.
ورأى بعض النشطاء أن ما يحدث يعكس حالة الفوضى العالمية، قائلين: (نحن في مرحلة انتقالية بين عالم قديم يموت وآخر لم يولد بعد، وبينهما برزخ تظهر فيه وحوش السياسة والاستعمار، حيث تتحول فلسطين إلى ساحة تجارب جديدة لأطماع القوى الكبرى).
كما كان من اللافت إنه في أعقاب نشر الفيديو الصادم، انتشر مقطع آخر، بين مستخدمي وسائل التواصل الإجتماعي الفلسطينيين، يؤكد أن غزة للفلسطينيين وستبقى كذلك. فعلى عكس (غزة ترامب)، وصور الفيديو شاطئ غزة، حيث انتشرت قوارب الصيد الصغيرة التي اعتاد الفلسطينيون ركوبها من أجل تحصيل رزقهم من البحر.
كذلك أظهر الجرافات ترفع الركام، لتنتصب مجددا أبنية القطاع التي هدمتها الغارات الإسرائيلية على مدى أكثر من 15 شهرا من الحرب. فيما وقف طفل صغير بابتسامة عريض، يحمل بالونا كتب عليه بالإنجليزية (أحب غزة)، وبدل تمثال ترامب المذهب الذي ظهر في الفيديو الماضي، رفرف علم فلسطين.

إنتهاك للقانون الدولى
إخيراً، ووسط الأوضاع الصعبة التي تعيشها غزة بعد الحرب التي استمرت ما يقارب 16 شهرا، فإن الجميع يعلم ويدرك إن الفلسطينيون يرفضون أي محاولات لفرض واقع جديد عليهم، ويؤكدون تمسكهم بأرضهم وحقهم في العيش الكريم، خصوصا في ظل انتشار فيديوهات وتصريحات تروج لمشاريع تهجيرية وآخرها هذا المقطع المقزز الذى نشره (ترامب).
كما يمكن التأكيد كذلك على إن ما نشاهده في فيديو (ترامب) ليس مجرد خيال سياسي أو نزوة رئاسية، بل هو ترجمة بصرية لمخطط التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، كما أن مثل هذا المحتوى يعد تحريضاً مباشراً على جرائم دولية وانتهاكاً صارخاً لميثاق الأمم المتحدة.
ورغم تصريحات (ترامب) اللاحقة بأن خطته غير إلزامية، فإن نشر هذا الفيديو يكشف عن إصراره على مخطط التهجير القسري الذي يشكل جريمة حرب.
كذلك فإن ترويج فكرة الاستيلاء على أرض شعب آخر وتغيير هويتها وثقافتها ومعالمها يعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، كما انه لا يوجد أي أساس قانوني يسمح لدولة أجنبية بالسيطرة على أراضي غزة وتغيير طابعها الديموغرافي والثقافي.
كذلك الصور الخيالية التي تظهر تمثالاً ذهبياً لترامب وشعار غزة ترامب تكشف عن نزعة استعمارية بغيضة تتجاهل وجود شعب له تاريخ وهوية وثقافة، وهذا ليس مشروعاً تنموياً كما يروج له، بل هو محاولة لإعادة إنتاج الاستعمار بصورة جديدة.
وهو ما يستلزم معه ضرورة اتخاذ موقف عاجل وحازم من هذه التصريحات والممارسات التي تهدد السلم والأمن الدوليين، ووجوب قيام المنظمات الدولية والدول المحبة للسلام بإدانة هذه المخططات الاستعمارية والتأكيد على الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه.