

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
على الرغم من الاحتفاء الإسرائيلي الرسمي بمقترح، الرئيس الأمريكي (ترامب) الذي أعلنه مساء 4 فبراير خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) نقل ما يقرب من مليوني فلسطيني من غزة التي دمرها العدوان الإسرائيلي إلى منازل جديدة في دول أخرى من بينها مصر والأردن.
وذلك (حتى تتمكن الولايات المتحدة من إرسال قوات إلى القطاع، وتولي المسؤولية وبناء ريفييرا الشرق الأوسط)، تتواصل ردود الفعل المتباينة من جانب وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية على حداً سواء.
هذا التباين بدا واضحاً للغاية من خلال عشرات التحليلات والتقارير الواردة من تل أبيب وكافة العواصم الأوروبية حملت في طياتها تواجساً من المقترح الأمريكي.
بعضاً من وسائل الإعلام الإسرائيلية، وليس كلها بطبيعة الحال شككت فى مدى جدية فكرة (ترامب)، منها القناة الـ 12 الإسرائيلية، التى شككت من جانبها فى مسار مفاوضات (اتفاقيات أبراهام)، في إشارة إلى نهج متكرر يستخدمه الرئيس الأمريكي يجني من خلاله أقصى قدر ممكن من المكاسب مع أقل قدر من التنازلات.
وتحدثت عن عقبات تنفيذ خطة (ترامب) بـ (امتلاكه) قطاع غزة، خاصة مع غياب (الثمن الفوري) الذي سيدفعه رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) مقابل هذه الخطوة، كاشفة عن أن أعضاء الوفد المرافق (لنتنياهو).إلى البيت الأبيض، لم يكونوا يعرفون حتى اللحظة الأخيرة ما الذي ينوي (ترامب) قوله (لنتنياهو).
كما عبرت القناة عن اعتقادها أنهم (كانوا يشعرون أن الأمريكيين استوعبوا مبدأ أن هناك حاجة إلى تحرك كبير وضخم لإزالة العقبات من الطريق، ولا يقصد هنا شركاء (نتنياهو) فحسب، بل أيضا رئيس الوزراء شخصياً، لافتة إلى إنه وفي الواقع، احتفظ (ترامب) بالمفاجأة للحظة الحاسمة.
حيث أعلن خطته بشكل مشترك مع (نتنياهو) أمام الكاميرات، ومن ثم كانت المفاجأة ثلاثية الأبعاد؛ حيث تحدث (ترامب) عن جميع سكان غزة، وعن نقلهم بشكل دائم وليس فقط لفترة إعادة الإعمار، كما أعلن أن واشنطن تعتزم السيطرة بنفسها على المنطقة.
معتبرة الإعلان بحد ذاته يشكل حدثا سياسيا مهما؛ إذ يتبنى (ترامب) فعليا فكرة مفادها أن الفلسطينيين ليسوا شعبا له الحق في تقرير المصير والمطالبة بدولة، بل هم أفراد لا بد من إيجاد حل عقاري لهم، معتبرة إنه لا يقترح حتى نقلهم إلى مكان واحد، بل يفكر في توزيعهم على عدد من الأماكن المختلفة.

التطبيع واتفاقيات السلام
ولفتت إلى أن التقديرات في إسرائيل لا تزال تشير إلى أن (ترامب) يسعى في اتجاه آخر؛ نحو التطبيع واتفاقيات السلام، مع تأكيدها على إنه لا ينبغي الانخداع بتصريحه بأنه رفع يديه بشأن جائزة نوبل، فهو يدرك أن إسرائيل لا يمكنها تقديم أي شيء للفلسطينيين بعد 7 أكتوبر 2023.
ولذلك يطرح تهديدا دراماتيكيا يمكنه هو نفسه استغلاله في المفاوضات، وقالت “في الواقع، نحن أمام نمط متكرر؛ فخطوة ترامب تشبه ما حدث مع (اتفاقيات أبراهام).
وزادت على ذلك بقولها: (أدخلت آنذاك قضية الضم (الضفة الغربية) كورقة مساومة أُزيلت لاحقا من المعادلة لإرضاء دول الخليج، دون أن تضطر إسرائيل إلى دفع ثمن إضافي على صعيد القضية الفلسطينية، وكذلك الآن، قد يكون طرح فكرة تفريغ غزة من سكانها ورقة مساومة جديدة، يمكن لترامب استخدامها، خاصة إذا تبين أن تنفيذها يواجه صعوبات.
معربة عن إعتقادها مجدداً أن مشاهد مغادرة الفلسطينيين من قطاع غزة، قد تُعد لحظة انتصار في نظر الكثيرين، لكن هناك من يخشى أنها مجرد وسيلة للتمويه، فحتى بعد لقاء (نتنياهو) و(ترامب)، لا تزال هناك ضبابية بشأن تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار.
ووفقا للرئيس الأمريكي، فإن الفرق تعمل على ذلك، وقدرت أن إسرائيل لا تزال تصرّ على القضاء الفوري على حركة (حماس)، لكن (ترامب) من جانبه لا يبدو متحمسا لمواصلة الحرب بنفس الوتيرة، حيث سبق أن صرح قائلا: (حتى الجنود لا يريدون الوجود في هذا المكان المدمر).
قريباً من هذا الطرح، كشفت وسائل الإعلام الغربية عن حالة رفض أوروبي رسمي للمقترح الأمريكي، إذ أظهرت وثيقة اطلعت عليها (وكالة رويترز) أن الاتحاد الأوروبي يعتزم إبلاغ إسرائيل بأنه يجب ضمان عودة لائقة للفلسطينيين الذين نزحوا من منازلهم في قطاع غزة.
وأن أوروبا ستساهم في إعادة بناء القطاع المهدم، وهو ما يتوافق مع مواقف الدول العربية بشكل عام والموقف المصري على وجه خاص.
بحسب الوثيقة فمن المقرر أن يوضح الاتحاد الأوروبي، وهو من كبار المانحين للفلسطينيين، موقفه للمسؤولين الإسرائيليين في محادثات ببروكسل يوم 24 فبراير في إطار مجلس الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وهي أول جلسة من نوعها منذ عام 2022.

التهجير لا يزال مستمرا
وتؤكد الوثيقة المتعلقة بمسودة موقف الاتحاد الأوروبي التزام أوروبا بأمن إسرائيل ووجهة نظرها بأنه (يجب ضمان عودة آمنة ولائقة للنازحين إلى منازلهم في غزة).
وأضافت: سيساهم الاتحاد الأوروبي بنشاط في جهد دولي منسق للتعافي المبكر وإعادة الإعمار في غزة، كما دعت إلى إتاحة وصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل.
وأوضحت الوثيقة أن (الاتحاد الأوروبي يعبر عن استيائه العميق بشأن العدد غير المقبول من المدنيين، لا سيما النساء والأطفال، الذين فقدوا أرواحهم، والوضع الإنساني الكارثي الناجم بشكل خاص عن عدم دخول المساعدات الكافية إلى غزة خاصة في الشمال.
كما أثارت تصريحات الرئيس (ترامب) حول قطاع غزة جدلا غربياً، عبر عنه (داغ هيربورنسرود)، الكاتب الصحفي ومؤسس مركز تاريخ الأفكار العالمي في أوسلو، الذى اعتبر من جانبه أن التهجير لا يزال مستمرا منذ أن هُجر أكثر من 800 ألف فلسطيني خلال النكبة عام 1948.
وبالتالي، لا يستبعد قيام (ترامب/نتنياهو) بتهجير الفلسطينيين من غزة في المستقبل القريب، (أو قد يحاولون تحقيق ذلك على الأقل، اعتمادا على تطور الوضع على الأرض).
أما أستاذ العلوم السياسية (جان بيير فيليو) فيري في سياق تحليل له أوردته صحيفة (لوموند) الفرنسية من جانبه أنه لا جدوى من الغضب من مشروع الرئيس الأمريكي (ترامب) تحويل قطاع غزة، بعد إخلائه من سكانه الفلسطينيين، إلى (ريفييرا الشرق الأوسط)، ما لم يترجم ذلك في معارضة سريعة تقوم بالتعبئة الاستباقية لصالح حل الدولتين.
وتساءل (فيليو) عن الزعماء الذين يشعرون الآن بالغضب من تصريحات البيت الأبيض، ماذا فعلوا حقيقة خلال 16 شهرا لمنع حدوث هذا الظلم، وأين كانت الديمقراطيات الغربية عندما كان القصف والجوع يضربان السكان العالقين تحت الخيام؟، وأين كانت الدول العربية عندما كان أهل غزة يطالبونها بالتدخل لرفع الحصار؟
وذكّر بأن (ترامب) لم يكتف بتأكيد عزمه على امتلاك القطاع الفلسطيني، بل أوضح أن سكان غزة لن يكون لهم الحق في العودة إليها، ليضيف بذلك كلاما لا يقل وحشية عما يعيشونه من واقع غير إنساني.
ومع أن (ترامب) – كما يقول – لا يتحمل أي مسؤولية مباشرة عن تحويل غزة إلى (موقع هدم) ضخم، فإن قراره بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس أثار موجة من الاحتجاجات الشعبية في غزة، قتل فيها العشرات في مايو 2018، في أثناء حفل نقل السفارة، ولم تحاول أي دولة استغلال تلك الاحتجاجات الشعبية في غزة لتحدي قبضة (حماس) هناك.

مصير ؤيتحدد في غزة
كما لم تحاول أي دولة منع رئيس السلطة الفلسطينية (محمود عباس) من تأجيل الانتخابات العامة إلى أجل غير مسمى في أبريل 2021، وكانت مسؤولية زعماء الاتحاد الأوروبي هائلة في حرمان الشعب الفلسطيني من الديمقراطية رغم أن الاتحاد هو المانح الرئيسي للسلطة الفلسطينية.
مبررين ذلك باسم “استقرار” الأراضي الفلسطينية، وهو (استقرار) وهمي لأن الاستيطان مستمر في الضفة الغربية إلى جانب حصار غزة.
وعندما تحطم هذا (الاستقرار) الوهمي في السابع من أكتوبر 2023، لم يحاول أصدقاء إسرائيل المعروفون منعها من (الوقوع في فخ حماس)، بل رافقوها في حملتها لتدمير غزة، وهي أخطاء لا علاقة لترامب بها بل إن وصوله إلى البيت الأبيض فتح الباب لهدنة سمحت – رغم هشاشتها- بعودة مئات الآلاف من النازحين إلى أنقاض ما كان في السابق موطنهم.
أما الآن – يضيف (فيليو) – فإن (ترامب) يعلن (بوقاحته المعتادة) عن الحالة التي سمحنا جميعا لغزة بالغرق فيها، من خلال التغاضي عن تدمير هذه المنطقة وإبادة شعبها، كما تعطي حماس – بظهورها هناك من جديد – الحجة لقادة إسرائيليين وأمريكيين لطرد سكان القطاع، بذريعة “النصر الكامل” على الحركة.
وإذا كانت وحشية (ترامب) تميل بشدة إلى فرض الأمر الواقع في غزة، فعلى العالم عكس هذا الواقع من أجل فتح آفاق المستقبل أمام أكثر من مليوني نسمة من سكان القطاع، ومن أجل استعادة الشرعية لنظام متعدد الأطراف مهتز للغاية.
وذكّر (قبل عام) إن احتمال النصر الروسي في أوكرانيا يتزايد بطول أمد الحرب في غزة، بسبب الفجوة التي يخلقها ذلك بين الديمقراطيات الغربية والجنوب العالمي، والتي تتجاوز بكثير العالم العربي، وأمام رهان رئيس الوزراء (نتنياهو) والرئيس (بوتين) على إعادة انتخاب (ترامب).
قال (فيليو) إنه استنتج قبل عام أن (مصير أوروبا سيتحدد في غزة)، وبعد مرور تلك الفترة: (ها نحن أمام إملاءات ترامب في غزة وتحدي إنقاذ القانون الدولي).
كذلك اعتبر الباحث السياسي (أحمد أبودوح)، زميل مشارك في (برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية)، في مقاله بموقع (تشاتام هاوس) البحثي البريطاني، أن اقتراح الرئيس (ترامب) قد غيّر بالفعل معادلات الشرق الأوسط، سواء كان مقترحاً جاداً أم مجرد مناورة تفاوضية،.
وقال إن هذه الخطة تهدد بنسف مفاوضات تبادل الأسرى وتدمير ما تبقى من عملية السلام الهشة.

تهديد وجودى للدول العربية
وأشار إلى أن خطة (ترامب) منحت دفعة سياسية قوية (لنتانياهو)، الذي يستطيع الآن تقديم نفسه لأنصاره من اليمين المتطرف باعتباره الزعيم الوحيد القادر على تحقيق رؤيتهم بمباركة أمريكية، وبدلاً من دعم حل الدولتين، تمهد الخطة الطريق لاقتلاع الفلسطينيين من غزة، مما ينهي أي احتمال لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهذا بالضبط ما يسعى إليه نتانياهو منذ سنوات، دون أن يبالي بالعواقب.
وأوضح أن الخطة قد تكون جزءاً من صفقة أكبر تعترف فيها الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل على الضفة الغربية بالكامل، وهو أمر كان من المستحيل تخيله في السياسة الأمريكية سابقاً، لكنه أصبح الآن احتمالاً واقعياً بفضل تحالف (ترامب – نتانياهو).
بالنسبة للدول العربية، يقول الباحث إن هذه الخطة ليست مجرد كلمات فارغة، بل تمثل تهديداً وجودياً مباشراً، وأضاف: (تعتبر مصر والأردن، اللتان حافظتا على معاهدات سلام مع إسرائيل، تهجير الفلسطينيين وصفة للفوضى وعدم الاستقرار، قد تؤدي إلى انهيار معاهدات السلام بالكامل).
إذ حذرت مصر بالفعل من أن أي محاولة لدفع الفلسطينيين خارج غزة ستُنهي معاهدة السلام مع إسرائيل، معتبراً أن هذه التصريحات ليست مجرد تهديدات دبلوماسية، بل موقف وطني تتوحد خلفه جميع القوى السياسية المصرية، بما في ذلك المعارضة والإعلام.
أما في الأردن، حيث يشكل الفلسطينيون غالبية السكان، حذر (أبودوح) من أن هذه الخطوة قد تشعل اضطرابات غير مسبوقة تهدد استقرار المملكة بأكملها، كما رفضت جميع دول الخليج العربي، وعلى رأسها الإمارات والسعودية خطة (ترامب).
وانتقد الباحث الخطة باعتبارها تناقضاً صارخاً لكل الأهداف التي زعمت إدارة (ترامب) السعي لتحقيقها في المنطقة، فبدلاً من تعزيز الاستقرار، ستؤدي هذه الخطة إلى إشعال جولة جديدة من العنف في غزة، وتعريض اتفاقيات السلام الإسرائيلية مع الدول العربية للخطر، وإعطاء إيران فرصة ذهبية لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط.
كما أن تنفيذ هذه الخطة سيمنح الصين وروسيا فرصة لتقديم نفسيهما كحماة للحقوق الفلسطينية، مما سيؤدي إلى تآكل النفوذ الأمريكي في المنطقة لصالح خصوم واشنطن.

إعادة تشكيل الشرق الأوسط
ورأى الكاتب أن هدف (نتانياهو) واليمين المتطرف الإسرائيلي أعمق من مجرد التعامل مع أزمة غزة، إذ اقترح رئيس الوزراء الإسرائيلي إقامة دولة فلسطينية في السعودية، بحجة أن المملكة تمتلك الكثير من الأراضي، وهو تصريح يكشف مدى استهتاره بمستقبل الفلسطينيين واستعداده للتضحية بأي مسار للسلام مع الدول العربية مقابل تحقيق أهدافه التوسعية، لكن التأثير الأكبر، سيكون على الولايات المتحدة نفسها. فعلى المدى الطويل، ستدرك واشنطن أن دعمها غير المشروط لحكومة نتانياهو يلحق ضرراً بمصالحها الإقليمية أكثر من أي تهديد آخر.
ومع تصاعد الإدراك بأن ولاية ترامب الثانية قد تكون بمنزلة (كرة هدم) لما تبقى من النظام الإقليمي، تزداد المخاوف من أن السنوات الأربع القادمة ستكون مليئة بالفوضى والدماء والدمار، ويختم الكاتب بالقول: (سواء كانت خطة ترامب خطوة محسوبة أو مجرد ارتجال متهور، فإنها ألحقت أضراراً لا يمكن إصلاحها بعملية السلام، وبمكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وباستقرار المنطقة بأكملها).