
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في صباح السابع من يونيو عام 1923، كانت الإسكندرية تتنفس نسمات البحر، ولم يكن يدري ذاك الطفل (محمود مرسي) الذي ولد بين أمواجها أنه سيصبح أحد أعظم فناني مصر، الرجل الذي سيجعل الصمت أكثر بلاغة من الكلام، ويحوّل النظرات إلى رسائل حادة تخترق الروح.
لم يكن (محمود مرسي) مجرد ممثل، بل كان فيلسوفًا يختبئ خلف الشخصيات، وجهًا صلبًا يخفي تحته عاصفة من المشاعر، ونظرات تحكي قصصًا دون أن تحتاج إلى لغة.
درس الفلسفة في جامعة الإسكندرية، كأنما كان يبحث عن سر الوجود، ثم رحل إلى باريس ولندن لدراسة الإخراج ثم عمل مذيعا باذاعة البى بى سى ، ليعود متأملًا، صامتًا، ومبدعًا في كل حرف ينطقه على الشاشة.

حين يصير الطاغية ظلًا في الذاكرة
في (شيء من الخوف)، لم يكن (عتريس) مجرد طاغية يفرض سلطته على قرية، بل كان تجسيدًا لرعبٍ مستتر، لرجلٍ يدرك أن السيطرة لا تحتاج إلى سيف، بل إلى نظرةٍ ثابتة ونبرة صوت تهز القلوب قبل أن تهدم البيوت.
كانت ملامح (محمود مرسي) في هذا الدور هي الرعب ذاته؛ عيناه الزرقاوان، الصلابة التي لم تكن تحتاج إلى ضجيج، والصوت الذي كان أشبه بحكمٍ لا يقبل الاستئناف.
وحين قال الناس بصوتٍ واحد: (جواز عتريس من فؤادة باطل)، كان ذلك أكثر من مشهد سينمائي، كان ثورةً ضد كل عتريس في كل زمانٍ ومكان، وكان أداء (محمود مرسي) تجسيدًا نادرًا للطغيان حين يبدأ بالتصدع).

السقوط بين الماضي والحاضر
في (السمان والخريف)، كان (عيسى الدباغ) ليس مجرد شخصية تعيش في دوامة الصراع الداخلي، بل كان تجسيدًا لرجلٍ ينتمي إلى أحد الأحزاب التي انتهى دورها بعد ثورة يوليو، مما دفعه للتخبط في حياته الشخصية والمهنية.
بعد أن استُبعد من المراكز الحساسة التي كان يشغلها، بدأ يبحث عن معنى جديد لحياته، ولاحت له الفرصة في لقاء مع (ريري) فتاة الليل، محاولًا في داخله أن يستعيد شبح القوة والسلطة المفقودة.
لكن على الرغم من انغماسه في هذا العالم المظلم، إلا أن (ريري) ارتبطت به وأخلصت له بشكل غير متوقع، ولم يكن أمامه إلا أن يسير في صراع آخر بين عاطفته وواقعه المرير.
وعندما اكتشف أنها حامل، كان رد فعله عكس ما قد يتوقعه الإنسان من رجل يملك جزءًا من القوة، طردها بعيدًا عن حياته، ليحاول الهروب من مسؤوليته حتى في أقرب اللحظات التي كان يمكنه فيها أن يعيد بناء جزء من إنسانيته.
في هذا الدور، لعب (محمود مرسي) الشخصية بكل ما فيها من معاناة نفسية، عبر من خلالها عن صراع رجلٍ سقط في فخ الماضي ولا يستطيع التحرر منه.. كانت عيناه دائمًا تومض بحيرةٍ لا تنتهي، كأنما كان يبحث عن نفسه بين فوضى الزمن والخيبة.

الصحافة بين النزاهة والانتهازية
في (زينب والعرش)، قدّم (محمود مرسي) واحدًا من أعمق أدواره وأكثرها تعقيدًا، حيث جسد شخصية (عبد الهادي النجار)، الصحفي الوصولي الذي صعد إلى قمة السلطة الإعلامية بفضل تملقه لرجال النفوذ وكتابة التقارير السرية عن زملائه.
كان (عبد الهادي) رجلًا لا يعرف المبادئ، بل يعرف فقط كيف يتلون مع الزمن، كيف يسير حيث تهب الرياح، وكيف يبني مجده الشخصي فوق أحلام الآخرين وطموحاتهم.
لكن الصراع الحقيقي في الرواية لم يكن مجرد صراع على المناصب أو النفوذ داخل بلاط الصحافة، بل كان صراعًا أخلاقيًا بين عبد الهادي النجار من جهة، ويوسف المنصور، الشاب المثالي الصادق الذي نشأ على النزاهة والشرف.
من جهة أخرى؛ كان (يوسف) يمثل الجيل الذي يحلم بإعلام نزيه، بينما كان عبد الهادي هو الوجه الحقيقي للفساد داخل المهنة، ذلك النوع من الأشخاص الذين يصعدون على أكتاف غيرهم ولا يترددون في بيع كل شيء من أجل مصلحتهم.
أما (زينب) تلك المرأة نصف التركية نصف المصرية، فقد كانت نقطة تقاطع بين العالمين. تزوجت صغيرة من رجل مقامر سيئ الطباع، وسعت للطلاق منه بحثًا عن الحرية.
في طريقها، وجدت (عبد الهادي النجار) الذي تظاهر بمساعدتها، لكنه في الحقيقة لم يكن يرى فيها سوى فرصة أخرى للصعود والتلاعب بالمشاعر كما تلاعب بالمهنة.
وعلى الجانب الآخر، كان يوسف المنصور يحبها بصدق، بعاطفة نقية غير مشروطة، وانتهى بهما الأمر بالزواج، كأنما كانت قصتهما تمثل انتصار الحقيقة على الزيف، حتى ولو كان انتصارًا متأخرًا.
كان أداء (محمود مرسي) في هذا الدور ساحرًا، عميقًا، يجسد ببراعة كيف يمكن لرجلٍ أن يكون ناعم الكلام لكنه مسموم الفعل، كيف يمكن للنظرة أن تحمل خبثًا أكبر من ألف كلمة، وكيف يمكن لوجه هادئ أن يخفي خلفه قلبًا لا يعرف إلا المصلحة.
لم يكن (عبد الهادي النجار) مجرد شخصية، بل كان مرآة لواقع لا يزال قائمًا، حيث يتصارع الشرفاء والانتهازيون في ساحات الإعلام والسياسة والمجتمع.

الوجه الذي نطق بالصمت
لم يكن (محمود مرسي) ممثلًا تقليديًا، بل كان فنانًا من طرازٍ نادر، يعرف كيف يجعل من السكون دراما، وكيف يجعل من النظرة رواية، وكيف يجعل من الوقفة مشهدًا كاملًا بلا كلمات.
لم يكن بحاجة إلى الصراخ ليكون مخيفًا، ولا إلى دموع ليكون حزينًا، بل كان ممثلًا يشعرك بكل شيء وهو لا يفعل شيئًا.
كان يمتلك تلك الهالة التي تجعل وجوده في أي مشهد كافيًا ليملأ الشاشة، تلك القوة التي تجعل من همسه أقوى من صراخ الآخرين، ومن صمته أبلغ من ألف حوار.
لم يكن يؤدي، بل كان يعيش، وحين كان يقف أمام الكاميرا، كان يتلاشى (محمود مرسي)، ويولد عتريس، أو عيسى الدباغ، أو عبد الهادي النجار.

حين رحل، لم يرحل
في الرابع والعشرين من أبريل عام 2004، أسدل الستار على حياة محمود مرسي، لكنه لم يُسدل على حضوره.
لا يزال صوته يتردد في ذاكرة السينما، ولا تزال نظراته تطلّ من الشاشات، ولا يزال صمته أكثر بلاغة من كثيرٍ مما قيل بعده.
لم يكن مجرد ممثل، بل كان مدرسة قائمة بذاتها، رجلًا لم يحتاج إلى الأضواء ليكون نجمًا، ولم يحتاج إلى الضجيج ليكون حاضرًا.
كان فنانًا عاش بهدوء، ورحل بهدوء، لكنه ترك خلفه أعمالًا تتحدث عنه أكثر مما تحدث هو يومًا.
كان (محمود مرسي) وجهًا لن يُنسى، وموهبة لن تتكرر، وأيقونة ستظل محفورة في ذاكرة كل من عشق السينما، والفن، والصمت الذي تكلم.