بقلم: محمود حسونة
أبكتنا حنان، وأوجعتنا حكايتها، وخطف طفلاها ياسين وفرح قلوبنا، وفتّح (تحت الوصاية) عقولنا لعورات في القانون الذي تخيلنا أنه يحمينا جميعاً، وفوجئنا به مصدر الظلم والقهر لبعضنا، ورغم الألم الذي اعتصرنا ونحن نتابع فصول ومراحل قضية حنان إلا أننا عشنا حالة من اليقين أن الفن يمكنه أن يحقق ما يعجز عنه غيره، وأنه الوسيلة التي يمكنها أن تفضح المستور وتكشف (المستخبي) أملاً في أن تدفعنا لتغيير قوانينا الظالمة ومفاهيمنا البالية وموروثنا المتجني على المرأة والسالب منها أبسط حقوقها، إذا توافرت لدينا الإرادة في أن ننتقل بمجتمعنا من مجتمع العنصرية والظلم لبعض فئاته إلى مجتمع العدل والحق والجمال للجميع.
الفن في ذاته ليس سبةً، وليس مروجاً للبلطجة، وليس داعياً للانفلات، وليس معتدياً على القيم، ولكن بعض فنانينا هم الذين شوهوه، وهم الذين أعطوا الفرصة للمتطرفين لتحريمه والطعن فيه والتشكيك في رسالته؛ بعض فنانينا هم الذين استخدموه وسيلة للهدم لا للبناء، ووسيلة لتحقيق مكاسب شخصية على حساب قيم مجتمعية، فهو وسيلة تحتمل التوظيف في الشيء ونقيضه، يمكن أن يرسي الصالح وأن ينشر الطالح، ويتم توجيه بوصلته حسب إرادة صناعه، فهو الوسيلة التي يستخدمها بعضنا لنشر البلطجة، وهو الوسيلة التي يستخدمها أعداؤنا لهدم قيم الديانات السماوية ومسح هويات الشعوب والاعتداء على ثقافات الأمم، وهو في ذات الوقت وسيلة الشعوب لمقاومة تيار الهدم الجارف والتصدي لحملات التشكيك، وهو أيضاً وسيلة المبدعين لإحداث التغيير المطلوب لأجل حياة أفضل للإنسانية ومستقبل أفضل للأجيال الطالعة.
مسلسل (تحت الوصاية) نموذج للدراما التي تستهدف إصلاح المعوج في القانون، وتضيء على سلبيات نصوص فيه تتعامل مع الأم باعتبارها لا تصلح لتحمل مسؤولية أبنائها حال وفاة الأب، ويتعامل معها باعتبارها كائن غير مسؤول يمكن أن يبعثر ميراث الأبناء ويتخذ القرار الخاطىء بشأن تعليمهم ومستقبلهم، ولو كانت في الحياة أمهات عاجزات عن تحمل المسؤولية، ففيها أيضاً أجداد وأعمام طمعوا في ميراث اليتامى وألقوا بهم إلى التهلكة، بل أن فيها آباء يلقون بأبنائهم وبناتهم في الشوارع ويتخذونهم أدوات للاسترزاق وجمع المال الحرام لهم وهم عاطلون لا ينشغلون سوى بإرضاء مزاجهم.. الحياة فيها نماذج من آباء وأمهات وأجداد وأعمام يشذون عن القواعد الطبيعية، ولا توجد من الدراسات واستطلاعات الرأي ما يفيد بأيهم أكثر عقوقاً للأبناء وتوظيفاً لهم واستيلاءً على حقوقهم.
الأم ستظل أماً، هى الحنان والعطاء والتضحية ولو انتهجت طرقاً خاطئة، ولو كان الجد أكثر حكمة في التعامل مع ميراث أحفاده اليتامى لن يكون أكثر حناناً من الأم، ولن يكون العم أكثر حرصاً، ولذلك فإن صرخة مسلسل (تحت الوصاية) ضد قانون الحسبة والوصاية جاءت مدوية، لمست مشاعر الناس وجذبت تعاطف الفئات الشعبية المختلفة مع حنان، أم الطفلين ياسين وفرح، التي هربت بابنيها من بيت الجد بعد وفاة زوجها واكتشافها أنه يريد أن يخرج حفيده من التعليم ليساعده في ورشة الحدادة، وبعد اكتشافها أن العم عاجز يلقي إليها بالفتات من دخل مركب الصيد الذي تركه الزوج المتوفي، هربت وسرقت المركب لتدير شؤونها بنفسها، حتى لو فرض عليها ذلك الخروج عن القانون والقواعد المجتمعية، وارتضت لنفسها أن تكون الريّس المتخفي للمركب، وأن تخرج في رحلات صيد مع رجال غرباء، فهي تعرف كيف تصون نفسها، كما تعرف أن أولويتها في الحياة هي توفير حياة كريمة لطفليها، ولكنها والمشاهدون معها يتأكدون أن القانون ليس وحده الظالم لها إنما المجتمع أيضاً، فالبحرية والتجار بجانب الجد والعم لها بالمرصاد.
صرخة (منى زكي) سمعها المجتمع بمختلف فئاته، وتفاعل معها الموجوعون أمثال حنان، وسردوا حكاياتهم الأكثر إيلاماً مما شاهدناه على الشاشة، والفضل في ذلك يعود لهذه الفنانة المبدعة المتجددة، التي انسلخت عن ذاتها واندمجت في شخصية حنان، الأم المقهورة المطاردة من القانون والمجتمع بسبب مساعيها لحفظ حقوق ابنيها القاصرين. كما يعود الفضل لفريق المسلسل الذي صنع هذه التحفة الدرامية التي جاءت محبوكة الصنعة تأليفاً لشيرين وخالد دياب وإخراجاً لمحمد شاكر خضير، وتمثيلاً لكل الفريق سواء المتعاطفين مع حنان أو المناهضين لها (أحمد خالد صالح، دياب، نهى عابدين، علي الطيب، مها نصار، خالد كمال، ثراء جبيل، محمد عبد العظيم، أحمد عبد الحميد وعدد آخر من الفنانين، والمبدع رشدي الشامي) الذي بكى الجمهور وفاته وكأنه واحد من أهلهم وذويهم.
(منى زكي) تثبت في كل عمل لها أنها الفنانة التي تتعامل مع الفن باعتباره رسالة ومسؤولية، العام الماضي أبهرتنا في (لعبة نيوتن)، وهذا العام وصلت بالابهار إلى أقصاه، تقمصت شخصية حنان شكلاً ومضموناً، أنستنا شخصية منى وأخذتنا عقلاً ووجداناً إلى حنان، بملابسها وشكلها ولغة جسدها التي تفوقت فيها على كل ما سبق تمثيلاً منها ومن غيرها، لتكتب اسمها بأحرف من نور في تاريخ التمثيل المصري، ولتتفوق بلا أدنى مبالغة على النجمات العالميات، ويكفيها أن صرختها في (تحت الوصاية) تجاوزت الحدود المصرية والعربية، ووصلت بلاد الانجليز حيث أضاءت عليها صحيفة (الجارديان) البريطانية، كما يكفيها أن صرختها حركت المجلس القومي للمرأة ممثلاً في شخص رئيسته مايا مرسي للسعي لتغيير القانون، كما حركت أعضاء في مجلس النواب لاتخاذ اللازم من أجل تغيير القانون، وأثارت الناشطين في مجال حقوق المرأة وفي حقوق الانسان لتبنّي قضية حنان وكل أم محرومة من حق الوصاية على أولادها القصر.
مسلسل كامل متكامل، لا يؤخذ عليه سوى التحول المفاجئ في شخصية العم في الحلقة الأخيرة، والذي ظل مطارداً للأم طوال حلقات المسلسل ليبدو متعاطفاً بعد إدانتها قضائياً، وبعيداً عن ذلك فكل شخصياته مقنعة وتطورها الدرامي طبيعي، والايقاع سريع ولا يوجد به مشهد يمكن الاستغناء عنه، ولا جملة حوار يمكن حذفها، ولا لحظة ملل يمكن أن تتسرب إلى المشاهد، وجاءت الحلقة الأخيرة لتبكي كل من شاهد المسلسل، كما جاءت الكلمات التي قالتها حنان للقاضي قبل أن يصدر الحكم عليها لتؤكد أن القانون هو نصوص جامدة بلا قلب.
(تحت الوصاية) ليس هو الأفضل هذا العام فقط ولكنه من الأفضل عبر تاريخ الدراما العربية، وصناعه جميعاً يستحقون التكريم والتصفيق والتقدير.