رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

شريف عبد الوهاب يكتب: (صوت العرب).. حين تحوّل الأثير إلى وطن!

شريف عبد الوهاب يكتب: (صوت العرب).. حين تحوّل الأثير إلى وطن!
كانت (صوت العرب) بمثابة البوصلة التي اتجهت نحوها القلوب من المحيط إلى الخليج

بقلم الكاتب الإذاعي: شريف عبد الوهاب *

لم تكن إذاعة (صوت العرب) عند انطلاقها في الرابع من يوليو عام 1953 مجرد وسيلة بث صوتي تخرج من قلب القاهرة، بل كانت ثورة تبث من قلب الأمة إلى أطرافها. كانت نافذة مفتوحة على الأمل، ومنبرًا للوحدة، وسلاحًا لمقاومة الاستعمار لم تحمله الأيدي، بل الكلمات.

في زمنٍ كانت فيه الجغرافيا مقيدة بقيود الاحتلال، والوعي محاصر بسلاسل التجهيل، والمستقبل غامضًا تسوده العتمة، جاءت (صوت العرب) لتكسر حاجز الصمت، ولتعلن للعالم أن في هذه الأمة حياةً ونبضًا، وأن الكلمة قد تصبح طلقة، والميكروفون قد يصير بندقية.

كانت (صوت العرب) بمثابة البوصلة التي اتجهت نحوها القلوب من المحيط إلى الخليج، ليستمع الناس في فلسطين والجزائر واليمن وسوريا إلى الموجة القادمة من القاهرة، كأنها رسالة مشفرة من المستقبل، تخبرهم بأن الظلم لن يدوم، وأن الحرية قادمة.

ولم يكن المذيع مجرد ناقل خبر، بل كان مناضلًا، ومثقفًا، وحالمًا… يقاوم بالوعي، يحارب بالتنوير، ويزرع الأمل في قلوب الملايين.

لم تكن تلك الكلمات تُلقى على الهواء عبثًا، بل كانت تسير وسط حقول الألغام، تخترق جدران القمع، وتصل إلى الضمير العربي الجريح.

كنت واحدًا من أولئك الأطفال الذين جلسوا أمام الراديو بعيونٍ متسعة وقلوبٍ مبهورة..

أتابع برامج (صوت العرب) مثل: (اللقاء المفتوح، وليالي الشرق) مع كامل البيطار، و(منتهى الصراحة) لوجدي الحكيم، و(قصاقيص) مع نبيلة مكاوي، و حمدي الكنيسي.

كنت أستمع إلى (أمينة صبري) في حديث الذكريات  وبرنامج (أضواء على الجانب الآخر)،  لـ (نجوى أبو النجا) في سهراتٍ شكلت وجداني وفكري،

شريف عبد الوهاب يكتب: (صوت العرب).. حين تحوّل الأثير إلى وطن!
دخلت إذاعة (صوت العرب) مذيعًا وكاتبًا ومخرجًا، أمارس شغفي من موقع من ألهب مشاعري يومًا ما

كان كل صوت يسكنني

وكانت الإذاعة، في نظر الطفل الذي كنت عليه، أكثر من جهاز فوق رفّ؛ كانت حلمًا، وعالمًا، ورسالة.

وبعد سنوات، وجدتني في المكان نفسه، لا كمستمع، بل كأحد صانعي الحلم.. دخلت إذاعة (صوت العرب) مذيعًا وكاتبًا ومخرجًا، أمارس شغفي من موقع من ألهب مشاعري يومًا ما، وقمت بعمل اول برنامج لي تحت عنوان (أن كنت ناسي أفكرك).

وتوالت البرامج التي حصلت بها على جوائز من مهرجان الإذاعه والتليفزيون بالقاهرة، أما الدراما الإذاعية.. حين يحلق الخيال.

لم يكن ارتباطي بإذاعة (صوت العرب) مقتصرًا على البرامج، بل امتد إلى الدراما الصوتية التي رأيت فيها وسيلة فريدة لصناعة الخيال وغرس القيم.

استمعت إلى روائع مثل (أشجع رجل في العالم، ودماء على الرمال) ففتحت لي آفاقًا جديدة، ودفعتني نحو الكتابة.. كتبت أولى قصصي محاولة تقليد تلك العوالم، وكانت تلك اللحظة أول بذرة لحلمي بأن أصبح كاتبًا دراميًا.

وكان أول عمل درامي كان بعنوان (مكالمة منتصف الليل).. وتوالت الأعمال الدرامية.. فهى لم تكن ترفًا ثقافيًا، بل كانت جزءًا من مشروع وطني متكامل، يحرّك الوجدان وينمّي الوعي، ويبني الحس الجمالي لدى الأجيال.

شريف عبد الوهاب يكتب: (صوت العرب).. حين تحوّل الأثير إلى وطن!
الدكتور (إبراهيم أبو ذكري)، رئيس الاتحاد العام للمنتجين العرب

الموجة التي صنعت الوجدان

منذ نشأتها، لم تكتفي (صوت العرب) بدورها السياسي التحرري، بل كانت إذاعة للثقافة والفن والموسيقى والشعر.

استضافت (نزار قباني)، وبثت أغنيات (عبد الحليم)، ونقلت السهرات الغنائية، وقدّمت التحليل السياسي جنبًا إلى جنب مع البرامج الاجتماعية والحوارات الفكرية.

استطاعت الإذاعة أن تخلق نسيجًا صوتيًا يعبر عن وجدان الأمة.. فحين كان العرب يختلفون على الأرض، كانوا يتوحدون على الأثير.

وفي وقتٍ كانت الصورة فيه غائبة، كان للصوت سطوة لا تُقاوَم.. وكان لصدق النبرة وقع لا يُنسى.. حتى في أحلك اللحظات، كانت “صوت العرب” هي الشعاع الوحيد في ليلٍ طويل.

ولأن الوفاء لا يُقاس بالكلمات فقط، بل بالفعل أيضًا، كان لي شرف تنظيم احتفالية كبرى لتكريم رموز (صوت العرب) بمناسبة مرور سبعين عامًا على انطلاقتها.

من خلال رئاستي للشعبة العامة للإذاعيين العرب، وتحت إشراف الدكتور (إبراهيم أبو ذكري)، رئيس الاتحاد العام للمنتجين العرب، الذي تبنّى الفكرة من أول لحظة وآمن بأهميتها، أقمنا احتفالية تحت رعاية وزيرة الثقافة، في رحاب مكتبة مصر العامة.

قدّمنا خلالها درع الشعبة وشهادات التقدير لكل من رفع اسم الإذاعة عاليًا، ولكل من أخلص في حمل الرسالة.

لم يكن الحدث مجرد تكريم لأفراد، بل كان إحياءً لذاكرة وطنية، واستعادةً لعصرٍ كان فيه الصوت صانعًا للمصير.

شريف عبد الوهاب يكتب: (صوت العرب).. حين تحوّل الأثير إلى وطن!
(صوت العرب) ليست مجرّد إذاعة.. إنها ذاكرة أمّة، وحلمٌ عربيٌّ نقي، ومنبرٌ حرّ لا يزال يتحدى الزمن

من المذياع إلى الضمير

اليوم، وبينما تتصارع الشاشات على جذب الانتباه، تبقى الكلمة المخلصة الصادرة من قلبٍ عربيّ هي الأبقى والأصدق.

فـ (صوت العرب) ليست مجرّد إذاعة.. إنها ذاكرة أمّة، وحلمٌ عربيٌّ نقي، ومنبرٌ حرّ لا يزال يتحدى الزمن.

هى الحكاية التي بدأت من أذنٍ صغيرة تُصغي في صمت، فصارت ميكروفونًا يُعبّر ويُضيء.. هى النغمة التي لم تنطفئ رغم ضوضاء العالم.. وهى الرسالة التي ستبقى حيّة، ما دام في الأمة من يحلم ويكتب ويبدع.

* رئيس الشعبة العامة للإذاعيين العرب بالاتحاد العام للمنتجين العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.