الحيطة المايلة (9) نفتح الوزارة ولا نقفلها ؟
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كانت ثورة 25 يناير يحركها الغضب قبل أن يحركها العقل ، أو كما قال الاستاذ هيكل أن الكل كان يعرف ماذا يرفض و لا أحد يعرف ماذا بعد الرفض ؟! لا أحد يريد الوضع القائم و لكن أى وضع جديد ينشدون ؟ لم يفكر أحد ، و لذا اختلف الجميع بعد إزاحة النظام ، و بدت الثورة و كأنها جسد ضخم بلا عقل ، كل عضو فيه يسير فى اتجاه عكس الآخر و يريد من كامل الجسد أن يطيعه . و لذا سيطر الانفلات و صار سمة لكل شيئ ، انفلات أمنى و انفلات أخلاقى و انفلات ثقافى ، رأيناه فى مظاهر عديدة : فى موظفين يحتجزون مديرهم ، و مواطنين يقطعون السكك الحديدية ، و مجموعة تهاجم استراحة محافظ و تحرق سيارته و أخرى تحرق مكتبة تضم كنوزا !! . سنوات من الكبت الطويل انفجرت فتجاوزت الحدود و طال الأمر و كلما بانت بوادر للهدوء تفاقم الوضع .
و بنظرة فاحصة سنكتشف أن بعض القوى تعمدت أن تستمر حالة الانفلات ، و لكل منها أسبابه الخاصة :
كانت هناك كتائب الإخوان المسلمين تثير الجماهير ثم تختفى من المشهد ، لكى يسرع المجلس العسكرى فى التنازل عن الحكم لصالحها – أيا كانت صيغة التنازل – و قد ثبت هذا فيما بعد ، فرأينا الرجل الذى أثار الناس حتى اشتعل الموقف و تحول إلى مواجهة تشبه المعركة ، أما هو فقد ترك الميدان ليذهب إلى بيته للبحث عن شاحن للموبايل !! و رأينا مظاهرات طلاب الأزهر التى طالبت بخلع الإمام الاكبر بسبب وجبة طعام فاسدة فى أحد المدن الجامعية الأزهرية !! حتى وصلنا الى الهتاف الصريح : يسقط حكم العسكر .
و كانت هناك أيضا كتائب الفلول أو أنصار النظام السابق و المستفيدين من بقائه قامت بتحركات أخرى لتؤكد أن سقوط النظام أدى الى الفوضى كما قال رأس النظام : أنا أو الفوضى ، مستغلين المطالب الفئوية و التصارع للحصول على أى مكتسبات سواءً كانت بحق أم بغير حق .
و كان هناك فريق ثالث يسعى لتحقيق الفوضى الخلاقة و يقود الدولة كلها إلى التفكك و ربما يقود الوطن إلى التقسيم تنفيذا لأغراض مشبوهة سواء كان أعضاء هذا الفريق يعلمون أو لا يعلمون .
و بين القوى الثلاث تتخبط كتلة كانت تظن أن الثورة ستحقق لها حياة أفضل ملؤها الحرية و الكرامة ، و تضمن المأكل و الملبس و المسكن و العلم لخصتها فى الشعار : “عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية “
وسط هذه الأمواج كانت وزارة الثقافة تتخبط و كأنها توشك على الغرق ، فالإخوان المسلمين يخططون للاستيلاء عليها ، و بالفعل توقف النشاط فى معظم قصور الثقافة إلا الندوات الدينية و تم تحويل بعض القصور الثقافة لمراكز توزيع خبز ، لكن الاستيلاء الكامل على الوزارة تأجل قليلا، ربما لأن الفنانين و المثقفين استبقوا الأحداث بمؤتمر تم عقده بنقابة الصحفيين و أعلنوا تكوين جبهة الإبداع للدفاع عن الثقافة المصرية فى يناير 2012 .
و كانت هناك أمواج عاتية أخرى تثيرها مطالب فئوية تجتاح الوزارة ككل الوزارات ، و زاد من صخب الأمواج أصوات أنصاف الموهوبين الذين ظنوا أن تلك فرصتهم لتبوأ المناصب التى خلت بسقوط أو انسحاب رجال العصر السابق أو المطالبين بأن يحصلوا على قالب من البيت المنهار أو الذين سعوا لتصفية حسابات شخصية أو أحقاد مهنية.
وانضم إلى هؤلاء أعضاء التنظيم السرى لوزارة الثقافة ، فبرغم أن الوزارة كانت تدار بكفاءات من مثقفين كبار لهم أسماء لامعة ، إلا ان بعض مسئولى مكتب الوزير أنشأوا تنظيما سريا داخل كل موقع بالوزارة من أفراد غير معلومين ، و كانت مهمة التنظيم عد أنفاس العاملين بالوزارة و مراقبة انتظام العمل و عدم الخروج عن الخط العام الذى ترسمه ” أمن الدولة ” . و هو أسلوب تم اتخاذه للتقرب للوزير بنقل أدق الأسرار إليه ، حتى شاعت أقاويل عن مسئول أدمن التسجيل لزملائه تقربا للمسئول الأكبر . و قام أفراد هذا التنظيم بعد الثورة بإثارة المتاعب ، حيث قاموا بلعب دور ( الثوريين ) المطالبين باجتثاث الفساد ( !! ) ربما للحفاظ على مكانتهم أو لكى تسكتهم السلطة الجديدة ببعض المكاسب .
وسط هذه الأمواج ظهرت دعاوى تفكيك الوزارة التى قادتها إحدى منظمات التمويل الأجنبى ( و قد ذكرنى المخرج الكبير و الصديق ناصر عبد المنعم ببعض التفاصيل ) حيث نشرت تلك المنظمة ملصقات مكتوب عليها ( الثقافة مش وزارة ، الثقافة شارع و حارة ) و تم تعليقها بالشوارع حتى على حوائط الوزارة نفسها ، ثم استضافت لجنة الثقافة بمجلس نواب الإخوان بعض أفراد من ( المتمولين ) ليشرحوا كيف سيتم التفكيك ، و تزامنت مع الدعوة وقفات احتجاجية أمام بعض المنشآت تطالب بتسليمها لأفراد أو لتكوينات خاصة لإدارتها خارج سلطة الوزارة .
و برغم جهود أعضاء بارزين بتنظيم الإخوان ، و سعيهم الدؤوب لتنفيذ مخطط التفكيك إلا أن تعيين وزير ثقافة لا يملك أى موهبة سوى أحقاده و مراراته التى دفعته للاطاحة بأى رأس يحفظ للثقافة مدنيتها ، جعلت المثقفين يستشعرون الخطر ، فهبوا للدفاع عن وجود الوزارة أو الدفاع ضد أخونتها ، برغم أن بعضهم استهواه ” التفكيك ” ، فقد كانت تروقهم فكرة الخروج من سيطرة الدولة و دعوة التحرر من أسر البيروقراطية ، و يرون فى بعض الأنظمة الأوروبية أمثلة رائعة على التفوق الثقافى و الحضارى بدون وجود وزارة .
و البعض الآخر كان يحمل مرارة نابعة من تجربته داخل الوزارة ، و يرون فى أخطائها و خضوع أنشطتها لموافقة الأمن المسبقة جريمة لا يمحوها إلا تفكيكها ، مثل الكاتب و الروائى الكبير ابراهيم عبد المجيد الذى كتب تعليقا على مقالى السابق : ” وزارة الثقافة في الدول الرأسمالية لا تنتج مباشرة بل تدعم الانتاج الفني والثقافي بصرف النظر عن موضوعه ، و أنا طالبت بكدا فى 2011 وكان رأيي ولا يزال أن مركزية الحكم عطلت التجديد في النشاط الثقافي وأنها لو توزعت مبانيها بحق الانتفاع علي فنانين وكتاب مع الحفاظ علي الدعم المالي بالميزانية لعدة سنوات حتكون كلها زي ساقية الصاوي ” . و فات أستاذنا أو هو لم يتعرض لتعامل مباشر مع الساقية التى تفرض رقابة متعسفة أكثر من رقابة الدولة و لا تقبل سوى الأعمال التى تحقق لها ربحا.
و البعض الآخر ضرب مثلا ببعض الدول العربية كتونس التى لا تمتلك الدولة فيها سوى فرقة مسرحية واحدة و بقية الفرق تتلقى دعما من الدولة يساوى 70% من المشروع المقدم و على الفرقة أن تدبر الباقى من المجتمع المدنى ، و فاتهم الفارق الضخم بين عدد السكان هنا و هناك و الفارق أيضا فى نسبة الأمية و برغم هذا فإن الدولة التونسية ترعى فرق الجهويات ( المحافظات ) و تقيم مراكز حكومية للتدريب على الفنون .
و على الضفة الأخرى كانت هناك أسباب موضوعية يرتكن إليها المثقفون المطالبون ببقاء الوزارة أولها : نسبة الأمية الضخمة التى يعانى منها شعبنا و التى اقتربت من 30 % ( حسب آخر إحصاء قبل الثورة ) فهل من المنطقى إلغاء الوزارة فى مجتمع ثلثه يجهل القراءة و الكتابة ؟ و هل من المنطقى ترك هذه النسبة لأى عابث يستولى على منبر – سواء فى زاوية أو فى قناة تليفزيونية – ليبث أفكاره بينما مستمعوه لا يستطيعون القراءة ليتحققوا من صحة ما يقول ؟
و ثانى الأسباب أن بعض المفكرين يرون أننا لا نعانى فقط من الأمية الهجائية بل نعانى من كل أنواع الأمية ، كالأمية الثقافية و الحضارية و العلمية و المهنية و الرقمية ، و يجب أن نسأل أنفسنا قبل أن نفكر فى إلغاء الوزارة : كم تبلغ نسب الأمية بكل أنواعها ؟ و ماهى تأثيراتها المختلفة ؟ و ما علاقتها بانتشار التفكير الغيبى و عدم الاعتماد على التفكير العلمى و تكفير كل تفكير نقدى ، و كيف نحقق الانفتاح على المنجزات العلمية و تقبل الآخر بدون وجود وزارة ؟
ثالثا : أن ترك أمر الثقافة للقطاع الخاص أمر محفوف بالمخاطر ، ففى دول الغرب هناك مجتمع مدنى قادر على تدعيم الثقافة و يعرف أهميتها و ضرورتها و هناك طبقة وسطى قوية تستطيع أن تقود عملية التثقيف و التثاقف و التنشئة الاجتماعية ، أما فى مصر فالقطاع الخاص باحث عن الربح و بالتالى لن يقوم بمشروعات ثقافية قومية غير هادفة للربح : لن يقدم عروضا مجانية أو يدعم طباعة الكتاب أو يفتح الباب لمزاولة انشطة للهواة ، هل سمعنا عن مكتبات مفتوحة للاطلاع دون مقابل تنتشر فى أى مكان من العالم سوى فى الدول الاشتراكية .
رابعا : أن منظمات المجتمع المدنى فى مصر لا تدعم الثقافة و حتى لو أرادت ، فالقوانين لا تساعدها ( أرجو الرجوع للمقال رقم 6 فى هذه السلسلة ) و اذا اعتمدت منظمات المجتمع المدنى على التمويل الآجنبى فهذا معناه ببساطة أن تترك لكل من هب و دب أن يلعب داخل رؤوس الناس بلا ضابط أو رابط و فى اتجاه ما يريده صاحب التمويل ( عرضنا الموضوع بإسهاب فى المقال السابق ).
و برغم التقاء بعض المثقفين و الفنانين خاصة اثناء اعتصامهم بوزارة الثقافة فى جلسات طويلة احتوت كثيرا من النقاشات حول واقع و مستقبل الوزارة ، و إذا كنا فى حاجة لوجود وزارة ثقافة ؟ ، و برغم استمرار النقاش لما بعد الاعتصام من خلال مؤتمر ثقافة مصر فى المواجهة الذى قرر إقامته المعتصمون و اعتبروا توصياته قرارات لابد من تنفيذها ، فقد اختلفت الإجابات و تعددت و لكن الملاحظ أن الإجابة سواء بنعم أو لا وضعت شروطا للتنفيذ جعلت أنه لا إجابة خالصة محددة ، على طريقة ” نفتح الشباك و لا نقفله ؟ “
لماذا نطرح هذه القضية الآن ؟
من الملاحظ أن الدولة فى سبيلها للتخلص من القطاع العام ، باتخاذها خطوة إيقاف التعيينات فى الجهاز الحكومى ، و هذا معناه أنه خلال 20 عاما على الأكثر ستكون وزارة الثقافة فى خبر كان ، فليس هناك أجيال جديدة تحل محل الأجيال الحالية ، فهل استعدت الدولة لهذه المرحلة ؟ هل تستطيع من الآن و خلال السنوات المقبلة أن تخلق مجتمعا قادرا على الحفاظ على هويته دون وزارة للثقافة ؟ و ماهى شروط هذا المجتمع ؟ و حتى لو أبقت على الوزارة ، أليس هناك دور للمجتمع أم الأمر كله متروك للحكومة ؟
و لهذا حديث آخر ..