الحيطة المايلة (3) .. كيلو الابداع بكام؟
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
يقول البعض بأن أزمة وزارة الثقافة و قصور أدائها سببه إدارة ميزانيتها ، و ليس قلتها أو عجزها ، و أنه فى بعض الأحيان لا يتم صرف كامل الميزانية و تعود مرة أخرى لوزارة المالية . و هناك شائعة قوية تسرى منذ سنوات أن المسئولين الماليين يتعمدون عدم صرف كامل الميزانية لأنهم يتقاضون نسبة من المتبقى كمكافآت !، و فى الحقيقة أن هذا (خيال شعبى) ينم على أن المتحدث لا يعلم شيئا عن النظام المالى للحكومة المصرية ، فميزانية أى جهة حكومية تخضع لمجموعة ضخمة من اللوائح و القوانين ( و المعايير و المحددات و الترتيبات و الإجراءات و الموافقات ) تمنع الجهة من إعادة توزيع الميزانية حسب ظروفها أو استخدام أى فوائض فى غير الغرض المخصص لها ، فالدولة المصرية لديها تشريعات مالية صارمة فى هذا الشأن ، و الميزانيات تكفى بالكاد ، و أن أى متبقى فى الميزانية فى أى باب تعنى أن تخفّض وزارة المالية فى العام التالى ميزانية الوزارة فى نفس الباب ، و الباب الوحيد الذى غالبا ما لا يصرف كله هو الباب السادس نتاج لعوائق قانونية . فما هى الأبواب ؟
تنقسم ميزانية الدولة المصرية الى عدة أبواب ، و كل باب منها ينقسم الى عدة بنود ، يستوى فى ذلك وزارة الثقافة ووزارة التموين برغم أن الأولى تعمل فى مجال الإبداع و الثانية تعمل فى مجال المواد الغذائية ، و الفارق ضخم بين نشاط الوزارتين و لكنهما أمام القانون سواء و يحكم نشاطهما المتعارض نفس القوانين . و ترسل وزارة المالية إلى كل وزارة ميزانيتها حسب الأبواب و البنود : فالباب الأول فى ميزانية الدولة – و بالتالى أى جهة حكومية – هو الخاص بالمرتبات و الحوافز و الأجور الإضافية لموظفى الحكومة و مكافآت الانتداب ، و من نفس الباب يتقاضى العاملون بالحكومة أجورهم لو تعاقدوا مع جهة حكومية أخرى غير جهة عملهم الأصلية .
و الباب الثانى هو باب الإنتاج ، و بالنسبة لوزارة الثقافة فهو يضم أموالا لشراء المواد ( السلعية و الخدمية ) مثل الأخشاب و الأقمشة و الدهانات و كذلك المطبوعات و الدعاية و إيجارات و صيانة الأماكن و المعدات ، و بند النقل و بدلات الانتقالات و تكاليف الإارة و استهلاك المياه ، و فى نفس الباب بند شراء حقوق مؤلفين سواء كانت درامية او موسيقية و تكاليف التسجيل بالاستوديوهات . و فى حالة وزارة الثقافة يعتبر الباب الثانى هو روح العمل و لكنه للأسف أقل الابواب فى الميزانية و أضعفها و يمثل أقل من 10 % من الميزانية الكلية .
أما الباب الرابع فهو يضم الأموال الخاصة بالتعاقدات غير الدائمة و المؤقتة و أجور جميع من هم على المعاش أو ليسوا من موظفى الدولة ، و الباب السادس و هو باب الاستثمارات و يختص بالإنشاءات من أبنية و تجهيزات و معدات و العمرات الكبيرة التى تخرج عن بند الصيانة ، فإصلاح سيارة يكون من الباب الثانى أما لو تطلبت عمرة فمن الباب السادس ! و هذا هو الباب الذى غالبا ما يتبقى منه أموالا لأسباب متعددة ( و لهذا حديث آخر ).
و لا تجيز الحكومة النقل من باب إلى باب و لا تمنح سلطة هذا النقل لأحد ، أما داخل الباب الواحد فهى تجيز النقل من بند الى بند و بشروط محددة و بموافقات متعددة . و هناك فى كل منشأة حكومية مراقب للحسابات من وزارة المالية ليراقب الصرف و يتأكد من مطابقته للقانون و النظام الموضوع من وزارة المالية و من حقه إيقاف أى تصرفات مالية ، و هو لا يخضع وظيفيا للجهة التى يعمل بها بل يخضع لوزارة المالية حتى لا يتعرض لأى ضغوط ، كما لا يجوز أن يتقاضى أى مكافآت من الجهة التى يراقبها . و من بعده يأتى الجهاز المركزى للمحاسبات ليراقب أوجه الصرف و أيضا الرقابة الادارية .
و هكذا تتحكم هذه الأبواب و مدى المتوفر فيها من أموال فى نوعية الإنتاج الفنى و الثقافى و الأدبى ، و لتقريب المسألة تعالوا نتخيل أننى أقدمت على إخراج مسرحية قرب نهاية السنة المالية ( بعد أن تناقصت كل البنود ) و رأيت كمخرج أن استعين بمجموعة من الممثلين الكبار من موظفى المسرح الذين هم على درجة فنان قدير، لأنه – من وجهة نظرى – لن يستطيع غيرهم القيام بالأدوار المسندة إليهم . و لكن للأسف من حق المسئول المالى أن يعترض ، فقيمة المكافأة المقررة – حسب اللائحة – التى سيحصل عليها هؤلاء الفنانين الموظفين و التى من المفترض صرفها من الباب الأول غير متوفرة . و السؤال هو كيف لا تتوفر؟
الإجابة ببساطة أن الباب الأول يضم المرتبات و هذه لها أولوية و لا يجوز المساس بها ، و أيضا مكافآت الفنانين و الإداريين ، و بما أن الإداريين هم المتحكمين فى الميزانية فيتم ( ربط ) مكافآتهم من بداية العام إلى نهايته ، أى تظل محفوظة لا تمس ، و الباقى لمكافآت الفنانين ( و هذه أحد أسباب العداء الدائم بين الموظف الإدارى و الفنان ، إلى جانب ضخامة مكافآت الفنانين بالنسبة للإداريين و التى تخلق حساسية دائمة ).
و مع مرور الوقت خلال السنة المالية ، و مع توالى الإنتاج ، يتحكم توفر البند فى اختياراتى كمخرج ، و لا يبقى أمامى سوى البدائل : إما أن استعين بممثلين من خارج الجهاز الحكومى ليتقاضوا أجورهم من الباب الرابع و ليس الأول ، و يظل ممثلى المسرح يتقاضون أجورهم بلا عمل ، أو على التنويع فى الممثلين الموظفين ما بين الكبار و الصغار – الذين يتقاضون مكافآت أقل – و لا عزاء لمبدأ الجودة أو رؤية المخرج أو ما شابه ذلك من قوانين العمل الفنى التى لا تعترف بها الحكومة .
و إذا اخترت ممثلا من خارج الجهاز الحكومى .. فكيف سأحدد له أجرا ؟ لا تندهش إذا قلت لك أن القانون – الذى يحكم كل الجهات الحكومية – يفرض على أن أجرى (مناقصة) لاختيار ممثل له نفس المواصفات بأقل سعر ، و هذا لا ينطبق على الممثلين فقط بل على كل المهن الحرة المشاركة فى العملية الإبداعية كالمؤلف و المخرج و الموسيقى … إلخ، ( و فى هذا الصدد أتذكر مقالا بديعا للكاتب الكبير ألفريد فرج عن موظف فى هيئة المسرح كان اسمه عبد الخالق ثروت تشبها بالسياسى الكبير الذى تسمى على اسمه الشارع الذى تقع به الهيئة ، هذا الموظف كاد أن يجرى مناقصة على نص للكاتب الكبير ليختار مؤلفا أرخص ) . و إذا كانت هذه المناقصات لا تتم حاليا إلا انها مفترضة قانونا ، و بديلها حاليا هو لجنة للأجور تقرر استحقاق كل فرد – غير موظف – لأجره و تتحمل المسئولية القانونية بديلا عن المناقصة.
و نأتى الى مثل صارخ آخر لتطبيق القانون على الأعمال الفنية و التعامل معها مثل التعامل مع أى منتج آخر لوزارة أخرى تتعامل فى الأحجار مثلا : قدمت وزارة الثقافة أحد الأعمال المسرحية الناجحة التى عرضت لفترة طويلة ، و تقدم أحد المنتجين لتصويرها تليفزيونيا ، و عرض مبلغا غير مسبوق – وقتها – يصل إلى مليون جنيه ، مخصوما منها تكاليف التصوير كمعدات و أفراد ، و لكن القانونيين اعترضوا ، فلابد من طرح المسرحية فى مزاد ( فى هذه الحالة يسمى قانونا : مزايدة ) و أن يتم هذا المزاد بالخطوات التالية : يتم نشر إعلان فى ثلاث صحف حكومية عن بيع المسرحية ، و يتقدم المشترون بعروض أسعار ، و تختار الوزارة السعر الأفضل . فإذا علمنا أن تكلفة الإعلانات الثلاث وحدها تصل إلى 300 ألف جنية ، ألا يعتبر ذلك خسارة ثلث العائد دون ضرورة ؟ نعم دون ضرورة ، لأنه فى ذلك التوقيت لم يكن هناك منتج يتقدم لتصوير أعمال وزارة الثقافة ! و زاد الأمر تعقيدا باشتراط القانونيين أن تقوم الوزارة بعمل مناقصة ( عكس مزايدة او مزاد ) لاختيار معدات و أفراد التصوير الأرخص سعرا ، و لم يسألوا أنفسهم ماذا لو اعترض المشترى على نتيجة التصوير هندسيا أو فنيا مادمت اخترت الأرخص و لم تختر الأجود ؟
و لم يتم بيع المسرحية ، لا هى و لا سواها . و فقدنا عملا جميلا يضاف إلى سجل الأعمال المسرحية الرائعة ، و قدرا من المال سيدخل خزينة الدولة ، و اكتفينا بمسرح الفضائيات يصول و يجول و يمسح تاريخ المسرح المصرى من ذهن المشاهدين ، ليظنوا أنه مجرد ضحك أجوف و نفقد مكانتنا على خريطة الفن العربى اكثر و أكثر.
كم من مشروعات فنية توقفت ، و كم من شراكات مع القطاع الخاص أو جهات غير حكومية أجهضت بسبب القوانين العاجزة عن إدراك طبيعة العمل الفنى ، بل يقال أن العمل داخل الوزارة نفسها أصبح من الصعوبة بمكان بعد أن قررت وزارة المالية ألا تصرف سلفة إنتاج بأكثر من 100 الف جنيه . و سلفة الإنتاج هى الأموال التى يتم بها شراء الخامات السلعية و الخدمية الخاصة بالمسرحيات ، فإذا كان تصنيع ديكور و ملابس أحدى المسرحيات سيتكلف 300 ألف جنيه فعلى المسرح أن يستخرج السلفة على ثلاث دفعات على أن (يسوى) إجراءات كل سلفة قبل استخراج التالية ( و التسوية لمن لا يعلم هى دورة ورقية و مالية تستهلك الكثير من الوقت و الجهد و من الممكن أن تمتد لاسابيع ) و كم شاهدنا مسرحيات تعطل افتتاحها – برغم جاهزيتها فنيا بسبب أن السلفة الأخيرة لم تصرف بعد .
و إذا كان حقيقيا أن وزارة المالية قررت إرسال ميزانية كل جهة على دفعات بشرط انتهاء صرف كل دفعة بالكامل قبل إرسال التالية سنعلم أى عوائق تعرقل عمل الوزارة ، فالانتاج سيتوقف إلى أن يتم صرف كل مستحقات الإنتاج السابق ، و هو أمر مُعطل و لا يتيح التزامن فى العملية الإنتاجية حتى يكون هناك تتالى فى العروض و النشاطات. و لا أعرف كيف يستطيع المسئولين إدارة العمل الفنى و الثقافى فى وسط هذه الغابة من المعوقات ؟! فإن إخضاع الابداع الفنى لنفس إجراءات و قوانين و روتين النشاط التجارى و الصناعى خطأ فادح ، و سوف يقودنا إلى أن نسأل المبدعين: كيلو الابداع بكام ؟ لنختار الأرخص ، بدلا من أن نختار الأجود و الأنفع فى الفن.