رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

كرمة سامي تكتب: (الحزن) الساطع آت

كرمة سامي تكتب: (الحزن) الساطع آت
يحكم (الحزن) قبضة حصاره عليّ ويستميت فلا أقوى على سماع صوت السيدة

بقلم الكاتبة: كرمة سامي

حزن فيروزي ساطع وصاف ألَّم بنا

ألا أيها (الحزن) الطويل ألا انجلي؟!

إنه ذلك (الحزن).. ألم الفقد.. انكسار القلب.. فوضى الحواس بعد أن غاب عنها المايسترو الذي علمها أبجديات النوتة الموسيقية للتذوق السمعي.. أن تكون الحياة أمامك بكامل مباهجها وأحزانها على مرمى لحن!، تفتح له أذنيك وتسمعه فيفتح عينيك، يقرأك ويكنه رحيق روحك ويسكنك ويصاحبك في كل مواقف الحياة، ولكل مقام مقال، ولكل موقف نغمة تصفه وتبوح بمكنونه.

مرت أيام، بل أسابيع وشهور، ولم يتراجع (الحزن) الذي أطاح بنا في نهايات تموز الماضي.. ظل رابضا داخل أيامنا متربصا بنا كائدا وكئيبا وكئودا. يتلذذ بسطوته علينا وقهر سلطانه لنا! تارة يوحي لنا أن ما فات قد مات، وما مات قد فات.

ثم ينحسر قليلا ويفسح لنا مساحة للتنفس لنرى ونسمع فنتذكر كيف كانت الموسيقى تخطف ألبابنا، وتربت على أرواحنا، وتفتح أعيننا، وتأخذنا معها في رحلة وعي جمالية بالفكر الموسيقي الذي أمتعنا به زياد وتركه لنا إرثا صامدا ويربو.  

يحكم (الحزن) قبضة حصاره عليّ ويستميت فلا أقوى على سماع صوت السيدة الذي كان يتسلل عبر أذنيّ ليشدو بترانيمه في قلبي، ولا حتى أجرؤ أن أبتهج وأنتشي بفوضى العيد المنظمة الساكنة في متواليات احتفالية المقدمات الموسيقية يميزها قيادة البيانو الحكيم، والچاز الجريء، والنحاسيات الحادة، والأكورديون العاشق، والعود النبيل، والكمنجات الراقية. 

كرمة سامي تكتب: (الحزن) الساطع آت
زياد الرحباني طفلا.. عبقري الموسيقى

صورة زياد طفلا

لا أتخيل السيدة إلا في بيتها بالرابية شمال شرق بيروت تجلس في زاوية بعيدة مظلمة على كرسي زان عتيق تغطي شعرها بوشاح رأس أسود من الدانتيل، وتعلق على رقبتها سلسلة ذهبية رقيقة تحمل صليبا صغيرا تتدلى بجانبه صورة زياد طفلا. 

ترتدي ثوبا داكنا يصل حتى كعبيها، ويستقر على ركبتيها ألبوم صور قديم للأولاد الأربعة في طفولتهم زياد وهلي وريما وليال.. تقلب صفحاته بأطراف أصابعها النحيلة فتصدر عن كل صورة قطعة موسيقية مؤلفة من أربع نغمات.

يفوح من الحديقة التي تحيط بدار السيدة وتكاد تحتضنه عبير الورود وزهور القرنفل والياسمين والريحان والأقحوان والتيوليب، ويجاهد العبير، عبثا محاولا، التسلل بين فتحات النوافذ ذات الزجاج الملون لعله يصل إلى السيدة ويسَّكِن حزنها، لكن حواس السيدة لا تستجيب، ولا تريد أن تتذكر سوى عطر ما بعد الحلاقة المفضل لزيادها الذي كان زادها.  

يستكين بجوار السيدة في جلسة وحدتها بدارها فنجان قهوة بارد وطبق صغير تستقر عليه شطيرة صغيرة تأبى أصابعها أن تمسها.. تغطي ستائر مخملية زيتونية نوافذ بيتها العالية، ولا تسمح بصرامة لشمس تشرين الرقيقة أن تنفذ من بين نسيجها إلا ببصيص من نور في ساعات النهار المبكرة حتى لا تزعج عيني السيدة التي جاهدت وكظمت حزنها.

وهي جالسة في حداد وديع تنتظر تشييع زيادها من كنيسة رقاد السيدة في بلدة المحيدثة، وبعد أن اطمأنّت عليه واستقراره في مدفن الرحبانية إلى جوار عاصي وليال، عادت إلى زاويتها ببيتها وأغلقت عليها رتاج قلعة حزنها وفاضت دموعها دون استئذان حتى ابيضت عيناها.

من نهايات تموز إلى أوائل تشرين يتكرر المشهد اليومي على رأس الشارع الذي يقع فيه بيت السيدة حيث تختلط أصوات الحياة أمواجا متوالية: مواء قطط، ونباح كلاب، وصراخ أطفال وضحكاتهم، ونداءات باعة جائلين، وأبواق سيارات، وموسيقى منبعثة من الراديوهات أغلبها من ابداع زوجها أو ابنها.

حين تقترب أمواج تلك الأصوات بألوانها ونغماتها من بيت السيدة تهدأ تدريجيا ثم تخفت تماما وتسكن استسلام الموج لرمال الشاطيء وكانّها تتشارك في صلاة صامتة تشاطر بها السيدة أحزانها. 

أحب لبنان، وأسميه (لبنان الكرامة والشعب العنيد)، مثلما سمعت أول مرة فيروز تصفه في حفلة حديقة الأندلس، ولم أزر بيروت إلا بقلبي عبر صوت السيدة.. تربطني بالسيدة علاقة خاصة فهي تعرفني وغنت لي، ذكرتني في أغانيها، صالحتني على اسمي عندما كنت صغيرة ألوم أمي على اختيار اسم غريب لي يحتار في نطقه المعلمون في المدرسة ويسألوني عن معناه في بداية كل عام دراسي.

كرمة سامي تكتب: (الحزن) الساطع آت
هل تغني السيدة الآن؟ ولمن تغني إذا غنت؟

الصوت جريح، والقلب كسير

فأقوم وأشرح لهم وأخفي ضجري وغضبي.. لكني كنت أرى بأذنيّ ابتسامة السيدة تسطع وهى تنطق اسمي، (يا كرم العلالي عنقودك لنا، يا حلو يا غالي شو بحبك أنا)، (فتعالي يا بنة الحقل نزور كرمة العشاق)، (واطلعي يا عروسة عالكرم نقي عنب)!

لهذا من الطبيعي أن أرتبك منذ السادس والعشرين من تموز الماضي، وأشعر بالخجل أن رغم حزني على (زياد) لم أقم بواجب العزاء للسيدة، وينتابني الشعور أن الاستمتاع بموسيقى زياد والرحبانية الآن خيانة لحزنها، بل سماع صوتها خيانة لحزنها ولو كانت الموسيقى حزينة، والصوت جريح، والقلب كسير.  

هل تغني السيدة الآن؟ ولمن تغني إذا غنت؟.. أم أن الموسيقى التي أمتعتنا بها حبيسة في قلبها تحرسها صورة ذهبية لزياد تستحي أن ترتقي إلى حنجرتها؟ هل تتمتم؟ تترنم؟: (بعدك على بالي)؟

ليذهب طير الوروار إلى الجحيم! واللعنة على سهر الليالي وحلو على بالي! ولا أريد أن تزوروني كل سنة مرة، بل الأفضل ألا تزوروني بالمرة، ولا تنتظر أن أحبك بالصيف أيها الأبله ولا بالشتاء، ولا يهمني (قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس).

بل لم يعد حلمي أن ينتظرني أحد على ذلك المفرق اللعين! وليأخذ الهواء المكاتيب اللعينة بعيدا إلى حيث لا تستطيع العودة!.. أنا حزينة على ما كان ولن يكون! ويظل سؤال السيدة يعذبني: فيكن تنسوا؟

ربما مستقبلا سأهدأ، وأنتصر على هذا (الحزن)، ولن تعذبني الموسيقى التي أسمعها، والتي كانت أنغامها نبعا ثقافيا وفكريا، فالموت علينا حق، والأنغام بيننا.

حزن السيدة فيروزي ساطع وصاف ألَّم بنا..

أريد عندما ترى فيروز زيادا أن تبادره بلهفة أمومتها المريمية لتسأله: (كيفك انت؟)، فيرد مبتسما “بل كيفك انتِ؟”

ألا أيها (الحزن) الطويل ألا انجلي؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.