رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!

(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!
تعلم مبكرًا أن الإضحاك عمل ثقيل، ثقيل جدًا، يحتاج إلى عضلات في القلب لا في الجسد

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

في ركنٍ من مشهدٍ شعبي، جلس (عمرو عبد الجليل) على أريكة قديمة، شيشة تتصاعد منها دوائر الدخان مثل أحلام معلّقة، ونظرة نصفها تأمل ونصفها كمين يتابع الداخلين والخارجين.. أحدهم قام وغادر، فأدار له ظهره، ولحظة انقطاع صمت كأن الكون كله توقف، أسقطها مدوية، لا تشبه صوتًا، بل صفعةً مكتومة على وجه الزيف: (أبو تقل دم أمك).

انفجر الضحك، ضحكٌ مليء بالتواطؤ مع الألم، كأن الضحكة هنا لا تعني السخرية، بل تعني: نعم.. نعرفه، عشنا معه، رأيناه في كل جلسة، على كل قهوة، وفي كل حارة.

(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!
على خشبة (محمد نجم)، في مسرحية (البلدوزر) سنة 1986، وقف أول مرة

ليست نكتة.. بل شهادة

ليست شتيمة، بل تقييم نهائي لكائن لا يصلح إلا أن يكون (ثقيل دم).

هكذا هو (عمرو عبد الجليل).. رجل يضحكك لا ليُضحكك، بل ليحميك من أن تبكي.. رجل يفكك لك الحياة كما يفكك بائع الروبابيكيا آلة معطلة، ليقول لك: شايف؟.. هكذا يعمل العالم.. خللٌ فوق خلل، وفوضى تُدار بابتسامة، أو بكلمة، أو بسُبةٍ، لكنها في حقيقتها درس.

روض الفرج.. هناك، حيث القهاوي مثل الجامعات، والأسطح أعلى من الأحلام، وحيث الطفل يولد بنكتة على طرف لسانه، وشقاوة في جيبه، ودمعة مؤجلة في قلبه..

في بيت مزدحم بستة إخوة، كان التوأم… (عمرو وأيمن).. وحيث تفتح الباب تجد أخاه (طارق عبد الجليل)، الكاتب الساخر، يعجن الكلمات بالضحك، كأنما العائلة كلها كُتبت بفواصل من الفكاهة ونقاط من الشجن.

 (عمرو عبد الجليل).. طفلٌ سمع أباه يقول يومًا: (يا ابني، الدنيا مش بتمشي بالعافية لكن بتمشي بالضحكة اللي في قلبك.” فصدقها، وقرر أن يمشي.

على خشبة (محمد نجم)، في مسرحية (البلدوزر) سنة 1986، وقف أول مرة.. لم يكن يعرف أن الخشبة أكبر من الأرض، وأن ضحكة الجمهور أخطر من طلقة.

(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!
في (إسكندرية كمان وكمان)

البروفة الأولى للحلم

تعلم مبكرًا أن الإضحاك عمل ثقيل، ثقيل جدًا، يحتاج إلى عضلات في القلب لا في الجسد، وأن أنجح نكتة هى تلك التي تقولها وعينك فيها لمعة حزن.

شاهده (يوسف شاهين).. الناظر الأعظم للوجوه.. لم يرَ فيه ممثلاً، بل مشروعًا للحضور.. صوته.. ضحكته.. مشيته التي تجمع بين خفة المراهق ووقار العارف.. قال له: (تعالى).

في (إسكندرية كمان وكمان، والمهاجر)، أصبح التلميذ الذي يكسر مقعد الفصل ليصنع منه منصة لنفسه.

قالها لاحقًا في أحد لقاءاته: (أول مرة شفت الكاميرا، افتكرتها تلسكوب كنت متأكد إني هشوف بيها كائنات فضائية.. بس لما بصيت فيها.. لقيت نفسي).

مشهد غريب.. رجل يضحكك ثم يجعلك تشعر بالذنب لأنك ضحكت.

(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!
حين ميسرة
(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!
دكان شحاتة

حين ميسرة.. الخلود الشعبي

في (حين ميسرة).. كان هو الظل الذي يمشي بجانب المهمشين.

في (دكان شحاتة).. جعل من الوجع كاريكاتيرًا.

في (هي فوضى).. كان صوته نصفه سبّة، ونصفه نشيد.

وفي (كلمني شكرًا).. توازن على حبل دقيق بين الابتذال الإنساني والسمو الإنساني. تراه فتضحك، ثم تكتشف أن الضحك هنا ليس مرحًا، بل اعترافًا مريرًا: نعم.. هذه بلدنا، وهؤلاء نحن.

في (سوق الجمعة).. مشهد رجل جالس، أحدهم يغادر بهدوء.. فيترك له ظهره.

لحظة صمت..

ثم تأتي الرصاصة: (أبو تقل دم أمك).

جملة ليست ارتجالاً، بل اختصارًا لقرون من التعامل مع البشر الثقال، الذين لا يضحكون، ولا يتركون من يضحك، أولئك الذين ثقلوا على الأرصفة، على القهاوي، على القلوب.

الجمهور انفجر ضحكًا.. لكنه، في سره، راجع دفتر حياته:

كم مرة قابلت هذا (التقيل الدم؟).

وكم مرة تمنيت أن أقول له ذات الجملة؟

(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!
الضاحك الباكي
(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!
الغاوي

الضحك وجهان لنفس الكف

(عمرو عبد الجليل).. من طايع إلى الغاوي… رحلات في جغرافيا الوجع..

في (طايع) أصبح شيخ القبيلة، رجلًا يحمل سكينًا في حزامه، وقلبًا بين ضلوعه لا يعرف كيف يخفف عنه.

في (ملوك الجدعنة).. كان (عمرو عبد الجليل).. الحكيم الذي يبيع النصيحة مثلما يبيع البقال رزًا وسكرًا.

في (مكتوب عليا).. لعب مع القدر لعبة خداع، حيث الكلمة المكتوبة على الجبهة أقوى من ألف قرار.

في (الضاحك الباكي).. التقى مع نجيب الريحاني، ليكتشف أن البكاء والضحك وجهان لنفس الكف.

وفي (سره الباتع).. كان رجل الأساطير الذي يعرف أن الحكاية لا تموت.. بل تتناسل.

أما رمضان 2025.. فيأتي بـ (الغاوي).. مسلسل عن رجل يغوي الحياة، يغوي الفن، يغوي الحظ، لكنه يعرف أن الغواية ليست هروبًا، بل معركة.

كيف يصنع السخرية؟

هو لا يضحك كثيرًا.. يكتفي بابتسامة جانبية، كأنما يقول لك: (فهمت؟).

لا يصرخ.. بل يضغط على الكلمة حتى تصرخ هى.

يعرف أن الصمت مشهد، وأن النظرة مونولوج، وأن الشفاة حين تنفرج نصف فرجة… قد تُضحكك أكثر من مسرحية كاملة.

(أبو تقل دم أمك).. (عمرو عبد الجليل) ساحرُ الضحكِ الثقيل!
رجل لا يرتجل نكتة، بل يرتجل فلسفة

سيد الضحك الثقيل

 (عمرو عبد الجليل).. رجل لا يرتجل نكتة، بل يرتجل فلسفة.

الحكم التي يلقيها في سطور ضاحكة..

 قالها مرة في أحد مشاهده:

(في الشغل هتكتشف أربع حاجا… إن الدنيا ماشية بالعلاقات مش بالكفاءة.. وإن مش كل النسوان ستات.. وإن مش كل العصافير بتطير.. وإن مش كل اليهود في إسرائيل).

جملة تبدو نكتة.. لكنها كتاب حياة.

إذا سألني أحد: من هو (عمرو عبد الجليل؟).

سأقول: رجلٌ إذا دخل مشهدًا، صار بطله، وإن خرج، ترك خلفه جملة، أو ابتسامة، أو صمتًا ثقيلًا مثل القصائد.

رجل علمنا أن السخرية ليست قلة أدب.. بل قمة الأدب مع الحقيقة.

وأن الجملة التي قد تبدو عابرة، مثل (أبو تقل دم أمك).. ليست سوى مرآة.. مرآة نقف أمامها كل يوم، نضحك.. ثم نفهم.. ثم نحزن.. ثم نضحك مرة أخرى، لأن (عمرو علد الجليل) قالها بدلاً منّا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.