
محمد بديع سربية… الصحفي الذي كان يصنع الخبر ثم ينشره
صنع خبر زواج بليغ حمدي وصباح وأصبح خبرا تاريخيًا.
بقلم الدكتور إبراهيم ابوذكري
في عالم الصحافة الفنية، تمرّ الأخبار كما تمرّ نسمات الصيف.. خفيفة، عابرة، ومؤقتة.. إلا أن هناك أخباراً تولد لتبقى، لا تموت، بل تتحوّل إلى حكايات يُعاد سردها في المجالس، وتتناقلها الألسن كأنها جزء من التراث غير المكتوب، ومن بين هؤلاء القلّة الذين أتقنوا فن تحويل اللحظة العابرة إلى خبر خالد، يبرز اسم (بديع سربية).
الصحفي الذي لم يكتفِ بأن ينقل الخبر، بل كان يصنعه بيديه، ثم ينشره بقلمه، فيمزج الحقيقة بالدهشة، ويحول الهامش إلى عنوان.
كان (بديع سربية)، رحمه الله، أكثر من مجرد رئيس تحرير وصاحب مجلة. كان مؤسس مدرسة نادرة في الصحافة الفنية، جعل من (الموعد) المجلة الأهم والألمع في العالم العربي لعقود طويلة.
امتلك قدرة استثنائية على التقاط الإشارات الخفية في عيون النجوم، وتحويل الهمسات العابرة إلى مانشيتات مدوية، بأسلوبه المترف، وأخلاقه العروبية، وعشقه اللامحدود لمصر، التي كانت في قلبه الوطن الأول، والبداية والنهاية.
عرف (بديع سربية) مفاتيح قلوب النجوم، ولم يكن غريبًا عن أحد منهم. بل كان مقربًا إلى درجة الأسرار، وأنا – إبراهيم أبوذكري – كنت من بين أولئك الأصدقاء الذين عرفوه من قرب، وشاركت معه الكثير من تلك اللحظات التي تسبق (انفجار الخبر)، لم يكن (بديع سربية) يقتنص الأسرار، بل يصنعها بحب، وبحيلة ذكية، وبابتسامة لا تخلو من مكر لطيف.
لكن ما فعله (بديع سربية) في قصة الحب والزواج بين بليغ حمدي وصباح لم يكن مجرد سبق صحفي، بل كان عملية (صناعة خبر) متكاملة، بل خلطة صحفية قلّ من يستطيع تركيبها.. لقد نسج خيوطها من علاقاته، وأدارها بدهاء رجل مسرح، فجعل من التلميح تصريحًا، ومن الحوار قصة حب، ومن الجلسة العفوية مشروع زواج.. ثم صدّق الجميع ما كُتب، حتى أولئك الذين كانوا أبطال القصة أنفسهم.

خبر زوج بليغ وصباح
نعم، لقد كان هذا الخبر واحدًا من أعظم الأخبار الفنية التي هزّت الوسط الفني العربي لعقود، خبر خرج من رأس (بديع سربية) قبل أن يُكتَب، ومن قلبه قبل أن يُنشر، وتحول – رغم كل ما أحاط به من شكوك ونقاشات وجدليات – إلى حدث حقيقي، عاشه الناس كما يعيشون الأسطورة.
وأنا، الذي كنت أحد شهود تلك القصة، بل أحد خيوطها الرفيعة، أرويها اليوم، كما عشتها، لا كما قُرِأت.. كواحد من شهود زمن كان فيه الصحفي شريكًا في صناعة الحدث، لا مجرّد راصد له، وكان فيه (بديع سربية) مدير العرض، لا مجرد ناقل للأدوار.
بدأت فصول هذه الحكاية في أجواء فنية مفعمة بالوطنية، حين كلّف المخرج الراحل (جميل المغازي)، أحد أبرز صُنّاع المنوعات في التلفزيون المصري، بتصوير مجموعة من الأغاني الوطنية المهداة للجمهورية العراقية في عهد الرئيس الراحل (صدام حسين).
كانت تلك الأغاني تُقدَّم كتحية للعراق، وشارك في أدائها نخبة من المطربين والمطربات، من بينهم الفنانة سميرة سعيد، التي كانت إحدى أبرز نجمات تلك المرحلة.
في ذلك الوقت، كنت أمتلك عدداً من سيارات معدات التصوير التلفزيوني، وقد اتفق معي (المغازي)، رحمه الله، على استخدام إحدى هذه السيارات لتصوير تلك الأغاني بأسلوب (البلاي باك) – حيث يُصور المطرب وهو يؤدي الأغنية تزامنًا مع تشغيل شريط صوتي مُسبق التسجيل، دون الحاجة إلى ميكروفونات أو فنيي صوت.
اكتفينا بفني لتشغيل نظام (البلاي) باك، بعد أن تم تجهيز السيارة بالأجهزة اللازمة صوتًا وصورة.
جرت عمليات التصوير في ستوديوهات الأهرام، حيث تم تسجيل أغنيات عدة لمجموعة من الفنانين، وسارت الأمور بسلاسة حتى اقتربت فقرة (سميرة سعيد) من نهايتها.. في تلك اللحظة، حضر مبعوث من السفارة العراقية يحمل طلبًا عاجلاً: يريد تسجيلاً صوتيًا قصيرًا من كل فنان يوجّه فيه التحية للرئيس (صدام حسين)، ويتضمن كلمات طيبة موجهة إلى الشعب العراقي.

إقناع (سميرة) بالانتظار
وكان من المفترض أن تبدأ (سميرة) بهذا التسجيل، لكنها كانت قد فرغت من أداء أغنياتها وهمّت بالرحيل، إذ كانت على موعد في منزلها بالزمالك، حيث تنتظرها سهرة خاصة دعت إليها مجموعة من أصدقائها المقربين، ومع تأخّر وصول الميكروفونات، تململت (سميرة) وتذمّرت، ورفضت في البداية البقاء، مُعللة ذلك بالتزاماتها الاجتماعية.
في تلك اللحظة، التفت إليّ المخرج (جميل المغازي) برجاء، طالبًا مني أن أتدخل لإقناع (سميرة) بالانتظار.. كان يعرف عمق صداقتي بها، وهى صداقة تعود إلى زمن برنامج (جديد في جديد) الذي أنتجته مع الموسيقار بليغ حمدي، وكانت (سميرة) آنذاك من الوجوه الغنائية الصاعدة.. بل إنها حلّت ضيفة على شركتي في أبوظبي، وهذه ذكريات أخرى تستحق أن تُروى لاحقًا.
توجهتُ إلى (سميرة) وطلبت منها الانتظار قليلاً حتى تصل الميكروفونات ويُسجل المقطع المطلوب، فوافقت.. ولكن بشرط: أن أرافقها إلى منزلها وأتولى بنفسي مهمة الاعتذار من ضيوفها، الذين هم في الأصل من أصدقائي أيضًا.. كان على رأسهم الموسيقار الكبير (بليغ حمدي)، ضيف الشرف في تلك الليلة، ومعه كوكبة من الأسماء اللامعة.
ورغم أنني لم أكن مهيأً بتاتًا لحضور سهرة من هذا النوع، إذ كنت أرتدي ملابس العمل ومررت على مواقع التصوير، فقد قبلت الدعوة، رغم أن معايير الأناقة كانت صارمة في تلك الأيام، بخلاف ما نراه الآن من تسيّب (الكاجوال) في كل المناسبات.
تم تسجيل الكلمة التي طلبت منها بمناسبة العيد القومي للعراق وتركنا بقية المطربين والمطربات يسجلون اغانيهم وكلماتهم واصطحبت (سميرة سعيد) بسيارتي إلى منزلها بالزمالك، وهناك وجدت السهرة قد بدأت.
كان الحضور فنيًا وإعلاميًا من الطراز الرفيع: الصحفي اللبناني (بديع سربية)، رئيس تحرير مجلة (الموعد)، والموسيقار (بليغ حمدي)، والفنانة صباح، والموسيقار (هاني مهنا)، ورئيس تحرير (الكواكب) سيد فرغلي، وعدد كبير من رموز الوسط الفني.
في تلك الأمسية الدافئة، حيث توحد الفن مع الصداقة، وامتزج العود بصوت (صباح) وضحكات الحاضرين بالكثير من قفشات وتعليقات متداخله، جلس الصحفي المخضرم (بديع سربية) في ركن هادئ من المجلس، لكنه لم يكن غائبًا عن المشهد.. كان كعادته يُصغي ويتأمل، يلتقط التفاصيل الصغيرة بعين الصحفي اللامعة، ويبحث عن الخيط الذهبي الذي يصنع منه خبراً لا يُنسى.

همسة تُثير العاصفة
لم يكن (بديع سربية) مجرد صحفي عابر في الوسط الفني؛ بل كان صانع نجوم، يعرف متى يصوغ كلمة تفتح أبواب المجد، ومتى ينشر همسة تُثير العاصفة.. كان يعرف نقاط ضعف الفنانين ونقاط قوتهم، وكان أقربهم فهمًا لشخصية بليغ حمدي – ذاك الموسيقار الخجول الذي يمكن أن تقول له (نعم) أو (لا) من خلال إيماءة، فيوافق أو ينسحب خجلًا، لا عن قناعة.
وسط الدفء والموسيقى، بدأ (بديع سربية) يقترب من هدفه.. أراد أن يصنع خبراً يتصدّر به صفحات العدد القادم من مجلته (الموعد)، ويعرف تمامًا أن الخيوط كلها متشابكة أمامه الليلة: (بليغ، صباح، سميرة)، وأنا، ومعنا نخبة من أهم الأسماء.. اللحظة لا تُقدّر بثمن، والحضور لا يجتمع كل يوم.
اقترب (بديع سربية) من (بليغ) بحذر، ولم يسأله سؤالاً مباشرًا، بل دار حوله بدبلوماسيته المعتادة، وبدأ يسحب منه الكلمات كما يُسحب الحرير من دودة الصمت، وبليغ، بحيائه ودماثته، أجاب بما لا يتوقّع أحد أن يُقال، وعندما شعر (بديع سربية) أن بليغ جاهز لتنفيذ خطته سأله سؤالا مباشرا ومباغتا، وبصوت سمعه كل الحاضرين في صالة الاستقبال التي كنا نجلس بها:
* (بديع سربية): قل لي يا بليغ؟
* (بليغ): نعم ياااا حبيب بليغ.
* (بديع سربية): مش أنت كنت زمان بتحب الصبوحة.
وعلي الفور ودون تردد اجاب بليغ حمدي بحماسه المعتاد بالمجاملة.
* (بليغ): ومين يا نجم الصحافة مش بيحب الصبوحة يا بديع.
* (بديع سربية): لا والله بجد، انا أقول لك انت بتحبها بشكل تأني بتحبها من قلبك ولها خصوصية عندك.
ومرة آخري وبنفس حماس الكلام، لم يتردد بليغ في المبالغة بالمجاملة.
* (بليغ): طبعا دي حب عمري.. وضحك الجميع.
وهنا نقل (بديع سربية) الحوار، وأصبح بينه وبين المطربة (صباح).
* (بديع سربية): وانت قولي يا صبوحة.
* صباح: عيون صبوحة.
* (بديع سربية): ايه رأيك في كلام بليغ انه بيحبك من قلبه طول عمره واحنا طبعا كلنا عارفين دا من زمان.
ولم تتردد الصبوحة في المبالغة في تجميل صورة العلاقة وقالت برقة صباح.
* صباح: يؤبرني بليغ يا بديع هو فيه حدا متل بليغ، لا في رقته، ولا في فنه، ولا في حبه لكل الناس، ولا في قلبه اللي انا قاعده فيه.
* (بديع سربية): يا صبوحة انا أسألك عنك انت وبليغ مش بتحبوا بعض ولم تتردد صباح.
* صباح: طبعا دا عمري كله..

نظر بديع إلي بليغ حمدي
ونظر بديع إلي بليغ حمدي.. بسؤال فيه أٌكثر جرئه وأكثر قوة وشكله جاد جدا، وهنا أصبحت رائحة بدء تطبيق هواية بديع سربية في صناعة الخبر تظهر.
* (بديع سربية) : يا حبيبي يا بليغ.. مش انت كنت عاوز تتجوز الصبوحة من زمان..
أحمر وجه بليغ خجلا، وبصوت هادئ.
* بليغ: ومين ما يحبش يقضي عمره كله مع الصبوحة..
وهنا تصاعد الحوار وبدآ بديع يتحرك بفرحة وانتصار وأصبحت فريسته جاهزة للانقضاض عليها. وتوجه الي الصبوحة.
* (بديع سربية): ايه رأيك يا صبوحة؟
* صباح: في ايه يا بديع؟
* (بديع سربية): في طلب بليغ؟
* صباح: طلب شو يا بديع؟
* (بديع سربية): بليغ عاوز يجدد طلبه بالجواز..
وكانت الجلسة قد تصاعدت في المجاملات للاثنين وفرحين بالحوار كنوع من الفرح والتسلية، لكن (بديع سربية) كان يجهز لخبر كبير.. وأخرج ورقة وقلم وبدأ يكتب ويقرأ ما يكتبه بصوت عالي:
عقد زواج عرفي بين السيد (بليغ عبد الحميد حمدي مرسي) الشهير ببليغ حمدي، والفنانة (جانيت جرجس فغالي) الشهيرة بالفنانة صباح، تم الاتفاق والتراضي بين الطرفين على ما يلي: يقر الطرفان أن كلًّا منهما خالٍ من الموانع الشرعية والقانونية للزواج، وأنهما قد تراضيا على الزواج العرفي طوعًا واختيارًا، دون إكراه.
واستكمل قراءة ما كتب دون تركيز من أحد ومرر العقد ببنوده كاملة حتي أسماء الشهود ووظائفهم والكل يضحك وسعيد وفرحين لهذا اللهو.. وتوجه لبليغ حمدي حاملا القلم والورقة مباغتا الفنان الطيب.
* (بديع سربية): مبروك يا بليغ وقع يا بلبل ..
وتم التوقيع من بليغ حمدي علي عقد عرفي بزواجه من صباح.. ووسط التهليل والفرح وبعض الأصوات المهنئة للعروسين.
ووقعت أيضا الفنانة صباح علي العقد وهي فرحة لهذا الفرح.. وكان لابد من شهود
قام بديع متوجها نحوي بالقلم والورقة بعد توقيع بليغ حمدي وصباح علي وثيقة الزواج العرفي قائلا:
والمنتج الكبير ابراهيم ابوذكري اول الشهود وموجها كلامه لي:
* (بديع سربية): وقع على أهم وثيقة كتبت هذا العام يا أبوذكري.
وتوجه الي الموسيقار (هاني مهنى)..
* هاني مهنا: يسعدني التوقيع طبعا يا عم بديع

عقد زواج عرفي
وتم التوقيع وأصبح في يد بديع عقد زواج عرفي بين (بليغ حمدي وصباح) وممهور بشهود ثلاثة (بديع سربية) والمنتج إبراهيم أبوذكري، والموسيقار (هاني مهنى).. ثم وضع (بديع سربية)عقد الزواج العرفي للزوج (بليغ حمدي) والزوجة المطربة (صباح) في جيبه وسط ضحكات وضجيج الحاضرين المتمتعين بفكرة زواج )بليغ وصباح) كأحد فقرات السهر لا أكثر ولا اقل.
وهكذا، لم تنتهِ تلك الليلة بمجرد أن أُطفئت أنوار السهرة.. فقد كانت بداية لحديث طويل في كواليس الفن والسياسة والإعلام، وتحولت من جلسة عشاء وسمر إلى وثيقة من وثائق الزمن الجميل، زمن كان فيه للكاميرا طقوس، وللبلاي باك قيمة، وللسهرة معنى يتجاوز الطعام والموسيقى.. إلى صناعة التاريخ.
وحقق (بديع سربية) هدفه من ذلك هذا كله وانتهت الجلسة، وانتهت السهرة بزفة صورية هزار بشوارع القاهرة بسيارتنا، فرحا وصخب وكل منا ذهب الي بيته، وتم صناعة خبر ينفرد به لمجلته الفنية التي كانت توزع على اعتبارها المجلة الفنية الأولي والوحيدة المهتمة بفنانين القاهرة هوليود الشرق بالعالم العربي.
ولا أحد كان يعلم ان هذا الخير والزواج الوهمي ارتكب أكبر حدث فني هز الأوساط الدينية والسياسية والاقتصادية وتبعه تداعيات في بعض الأوساط الدينية والصحفية والقانونية وأهمها تداخلات الجماهير وكتاب الرأي.. وأصبحت قضية رأي عام لفترة طويله تأثر بها أطرافها من الأضرار الكثير.
وهذا ما سياتي ذكره بحكايتي بالحلقة القادمة من هذه السلسلة **حكايتي مع الإعلام وصناع الاعلام B.
* رئيس إتحاد المنتجين العرب