رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي).. والتأثير البصري

(كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي).. والتأثير البصري
نوو وزوجته

بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول

ذكرنا في مقالات سابقة، أن (الجهاز الحسي) مجموع الحواس الخمس والذهن والمشاعر الداخلية لدى الإنسان ، والمسرحي المصري القديم ، كان يعمل على  تكوين علاقة حسية، عبر (الجهاز الحسي) للممثل ، و(الجهاز الحسي) للمشاهد.

ومعظم موضوعات المسرح المصري، كانت تتحدث عن أقوام سابقة، في الزمن السحيق، وكان يتعرض إلي شخصيات ومناظر وأحداث لم يراها الجمهور، ولهذا راح يتعامل مع المؤثرات البصرية، لصور الشخصيات وأماكن الأحداث بزمانها،  في صور تمثيلية في محاولة لتصوير هذه  الأحداث بشخصياتها.

ومن أهم ما تعرض له المصري القديم، أحداث الطوفان ، وذكر نوو (نوح النبي) وسفينة نوو، وتظهر شخصية (نوو) في التمثيل المصري القديم بمجموعة من اللوحات التي تصور الحدث الغيبي.

ففي مسرحية بدء الخليقة ، يبدو أن التعرض للطوفان كان من خلال منولوج يسرد الأحداث، مثال: في البداية كان الكون يتكون من محيط كوني فوضوي وظلمة شديدة، وتم الإشارة على هذا المحيط باسم (نوو).

من الكلمات السابقة نجد العماء والفوضى، ويقصد المصري من تلك الفقرة أحداث المياه التي خرجت من الأرض وانهمرت من السماء أدت إلى حجب قرص الشمس، وفي تلك اللحظة كانت الأرض والسماء في ظلمة وفوضي عارمة.

ثم بعد هدوء المطر المنهمر، وعدم خروج الماء من الأرض بدأت تظهر الشمس من جديد والجبال والأرض، وهنا يبدأ المسرحي المصري في إثارة حاسة البصر عن المشاهد، ليثير معه  (الجهازه الحسي) ملخصا تلك اللحظة الوليدة بظهر نوو حاملا قارب النجاة.

(كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي).. والتأثير البصري
نوو

نهاية أحداث الطوفان

وهذه اللوحة تلخص عملا فريدا للبصر والذاكرة لدى المشاهد، إذ المشاهد مخزنة في ذاكرته الاحداث تناقلا ولكن رؤيتها يعيد الأحداث غلي الأذهان ، وفي تلك اللوحة نشاهد الآتي:

(نوو): يحمل السفينة بدية ويرفعها إلى الأعلى.

السفينة: يركب فيها مجموعة من الأفراد.

قرص الشمس: في وسط السفينة يظهر جعران يدفع قرص الشمس إلى أعلى دلالة على ظهور الشمس بعد انحسار الغيوم الممطرة.

وهذه اللوحة التمثيلية لنهاية أحداث الطوفان من الممكن جدا، وضعها كخلفية عند تمثيل المسرحية مع المنولوج السردي للأحداث، مما ينفعل (الجهاز الحسي)، وخاصة حساسة البصر، فتساعد تلك اللوحة ، على إثارة الخيال البصري الذهني لدي المشاهد، الذي سوف ينعكس على المشاعر الداخلية التي أثرت به تلك للوحة التمثيلية فيه.

مما يثير متعة جمالية تخيلية مولدة، عن طريق هذه اللوحة فالانتقال في اللوحة من حالة الظلمة الحالكة، والفوضى، ثم ظهور الأشياء والشمس، يشعر المشاهد بمتعة جمالية، إذ أن أحداث الطوفان ارتجت لها الأرض، وكانت من الأحداث المرعبة في تاريخ البشرية خاصة أنها عقاب إلهي.

وسبق وذكرنا إن اسطورة الخلق المصرية، بل وجميع أساطير الخلق المائية والتي بينها تشابه في جميع حضارات العالم القديم، هى أحداث الطوفان التي حدثت وحرفت، ولكن التسجيل لهذا الحدث يظهر في مصر القديمة مسجلا اسم النبي نوح، وسفينته برغم التحريف المصري أيضا.

ويظهر (نوو) في بعض اللوحات بشكل ملتحي ذو بشرة زرقاء مخضرة، والغريب أن زوجته نونيت ، فتم تصويرها بشكل امرأة برأس ثعبان، أو تصور بشكل الثعبان، ومن المعروف أن زوجة نوح عليه السلام، لم تكن من المؤمنات برسالته.

كل هذه الأحداث والشخصيات غائبة في الزمان السحيق، ولكن عند إعادة تصويرها وتمثيلها، تصبح مؤثر بصري ينعكس على ذهن المشاهد، لتثير (الجهازه الحسي)، فيتذكر الماء المنهمر من السماء والغيوم التي حجبت الشمس بضوئها، والماء الخارج من الأرض.

وتتنبه الذاكرة السمعية لأصوات المياه والرياح وصرخات البشر الغارق.. إلخ، وتمزج هذه الذاكرة السمعية، مع اللوحة التي تصور نو الحامل لسفينة النجاة، وظهور قرص الشمس من جديد، وكل هذا ينعكس على مشاعرة الداخلية، ليشعر بتلك الأحداث الماضية، وبالعقاب الإلهي للبشرية.

(كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي).. والتأثير البصري
زوجة نوو (نونيت)

عهد نوو (نوح)

وهكذا صور المصري القديم، أحداث الطوفان بشكل محرف (شكل أسطورة خلق) وأعتبر (نوو) أو نون أبو الآلهة وينظر إليه في التاسوع على أنه متساو في نقطة الخلق مع أتوم (أدم)، ويظهر عهد نوو (نوح) بأنه بداية حياة جديدة إيمانية بعد أدم ومن كفر من ذريته.

وقد تعرض المسرح المصري القديم لشخصية أتوم، و(نوو) بشكل محرف، ولكن احتفظ بالحقيقة داخل التحريف مما يثير لدى المشاهد متعة التذكر، ومتعة مشاهدة الحدث الماضي، خاصة وأنه حدث كوني كبير، مما يثير حاسة البصر عند المشاهد من خلال اللوحات المصورة التي صوت شخصية (نوو) كرجل ملتحي، وزوجته برأس أفعي، أو ظهور قرص الشمس.. إلخ.

ومما سبق نلاحظ عند تمثيل الحدث، تلاحم (الجهاز الحسي) عند الفنان، بالجهاز الحسي عند المشاهد، في علاقة حسية (جمالية) بحتة، فكلاهما يؤثر في الآخر، الفنان يؤثر في المشاهد بالصور المرئية، والمشاهد يؤثر في الفنان بانفعاله، بما يقدمه.

وتحدث المتعة الجمالية بين الطرفين بالرغم من التحريف إلا أن الجزء الحقيقي المحفوظ داخل التحريف، هو الذي يصنع التأثير والجمال داخل العمل الفني، ونلاحظ أن جمالية المسرح المصري القديم نابعة من تعرضه لتاريخ البشر السحيق، منذ عهد آدم، وعهد نوح عليهما السلام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.