
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
وُلد الحسين بن منصور، الذي سيُعرف يومًا بـ (الحلاج)، في البيضاء بفارس سنة 858 ميلادية، ولم يكن في طفولته ما يُنذر بالعاصفة التي ستشق التاريخ نصفين… إلّا ذاك الشغف المبكر بالحرف، وتلك النظرة الزائغة إلى السماء، كأن فيها وعدًا لا يُرى.
نشأ (الحلاج) بين صوفيين، وارتشف اللبن من سطور القرآن، وأقبل على العلم والذكر كما يقبل الظمآن على السراب، حتى إذا بلغ العشرين من عمره، كانت بغداد تعرفه، ولم تكن تفهمه.
هو أبو المغيث، وقد أغاث قلوبًا وأغرق أخرى.
تتلمذ (الحلاج) على يد الجنيد، وسلك طريق الزهد، لكنه لم يقف عند الحروف، بل خرقها، وتجاوز النقط، ودخل من باب الله لا من باب الفقهاء.
ولأنه لم يكن يعشق الله من بعيد، بل يذوب فيه، كانت عباراته تغضب الحذرين، وتُشعلُ صدور رجال الدولة، وتربك فقهاء العصر الذين يُقيدون العرفان بميزان الكلام.
مرّ (الحلاج) بسوق بغداد ذات مساء، يصرخ في الناس:
يا أهل الإسلام، أغيثوني!.. فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها!).
كان يذوب في حضرة، ويتشظّى من أنواره، يتلظّى بنار لا تُرى، ويشرب من كأس لا يُرى.
قال في وجدٍ:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحانِ حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا

المنشد (ياسين التهامي)
عباراته هذه اليوم، تسمعها تُغنّى على لسان المنشد (ياسين التهامي)، في ليالٍ مقمرة، حيث السالكين يذوبون في الذكر، ولا يعلمون أن ما يشعلهم نارُ حلاجٍ قُطع قبل ألف عام.
من أجمل ما يُنشد (التهامي):
قلوبُ العاشقين لها عيونٌ
ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحةٌ تطيرُ بغيرِ ريشٍ
إلى ملكوتِ ربِّ العالمينا
في الساحات والموالد، حين يتمايل الحضور طربًا، لا يدرون أن صاحب هذه الأشعار، قد عُلّق على خشبة، وقُطعت يداه ورجلاه، ثم صلب، لأن صوته كان أعلى من صمتهم، وروحه أوسع من مدينتهم.
لم يكن (الحلاج) مجرّد صوفي ناسك، بل كان ثائرًا، خلط الحبر بالدم، والذِكر بالفعل، واتصل بالزنج والقرامطة والمحرومين، وكان يرى أن الفناء في الله لا يُلغي الجهاد في الأرض.
وكان في عزلته، يتأمل، يصوم، يتبتل، ويتعلّم فن اليوجا من حكماء الهند، وكان يقول: (الكرامة ليست أن تطير في الهواء، بل أن تثبت حين يغرق الناس في الوحل).
حين وقف في ساحة الإعدام، مقيدًا، مبتورَ اليدين والرجلين، سجد، ومسح وجهه بدمه.
فصرخ أحدهم: ماذا تفعل؟
فأجاب (الحلاج) بهدوء من تدرّب على نزيف الجسد:
أتوضأ.
وأي وضوء هذا؟
قال:
(ركعتانِ في العشقِ لا يصحُّ وضوؤُهما إلا بالدم)!
يا لله، ما أعذب هذا الجنون!
كان القاضي ابن سريج، أكثر الناس فهمًا له، ودافع عنه في البداية، حين صاح (الحلاج) ذات مرة وسط الناس: (أنا الحق)!
لم يكن يقصد أنه الله، بل أنه ذاب في الذات حتى تلاشى اسمه، كما يذوب الملح في البحر، فلا يُعرف له أثر.
ألم يقل الحديث القدسي:
(ما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها).

بأي حقٍ يُعاقب
فإذا سمع عبدٌ بالله، وأبصر بالله، ومشى بالله، وبطش بالله، فبأي حقٍ يُعاقب إن قال: (أنا الحق)!
ولكن، حين يغدو العاشق خطرًا على سلطان الطغاة، لا تُغتفر له عبارته، حتى ولو خرجت في وجد.
حُكم عليه في عهد المقتدر بالله، بألف جلدة، ثم التمثيل به، وقطع أطرافه، ثم الصلب، ثم القتل، ثم الحرق، ثم الذَرّ في دجلة، ثم محو كتبه، ومنع الورّاقين من نسخها.
لكنهم لم يمحوا صوته.
صوته بقي، يُغنّيه المنشدون، ويتردد في الخلوات، ويُحيي الليالي الميتة.
قيل إن آخر ما قاله:
أدعوك، بل أنت تدعوني إليك.
فهل ناديتُ إيّاك أم ناجيتَ إيّائي؟
يا عينَ عينِ وجودي، يا مدى همِّي.
يا منطقي وعباراتي وإيمائي!
لم يبق من (الحلاج) إلا كتاب (الطواسين)، وأشعار متفرقة، ومئات المجاذيب الذين ذابوا في الله بعده.
لكنّه، رغم قتله، لم يمت.
أليس العاشق الذي يموت في الحبيب، يحيا به؟
وأليس القتيل في العشق، شهيدًا عند ربّه؟
في تراثنا، لا أحد يشبه الحلاج، إلا الحلاج.
وفي وجدانك، إن كنت من العاشقين، يسكن ظله.
وإن سمعت (يا كلَّ كُلّي) بصوت التهامي، فاعلم أنها ليست مجرد قصيدة.. بل دمٌ مسفوك، ومقامات عجيبة، ورجلٌ ذاب حتى تلاشى، فلم يبق منه الا: (ركعتانِ في العشقِ لا يصحُّ وضوؤُهما إلا بالدم).
قالها (الحلاج).. وسمعها الزمان.