
بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
في هذه اللحظة على (سريري) في العناية المركزة كنت مستسلما تماما لكل ما يحدث.. أتعجل خروجي من هذه الدائرة حيا أو ميتا.. أخذت أتمعن النظر الى لمبات النيون في سقف العنبر.. أحاول الهروب من عالم العنبر و الولوج داخل عالم الضوء الأبيض.. أحاور مخلوقاته الضبابية..
طقطقات جهاز صاعق الناموس تضرب أعصابى بما تمثله من رسائل موت لكائنات تضج بالحياة حتى ولو كانت كائنات شريرة.. طلبت من (الحكيمة) التي تناديني (بعم إبراهيم) أن أذهب إلى الحمام.. قامت بسحب الأجهزة تباعا وأننا على (سريري) باستثناء الجهاز الموصول بكيس أحمله في يدي وهو الجهاز الخاص بالأستره..
دخلت الحمام .. تعجبت (الحكيمة) لأنني رفضت مساعدتي أو مصاحبتها لى الى الحمام.. أكره لحظات الضعف.. لاحظت انني أتطوح .. كدت أفقد اتزانى مرات عدة ..
حمدت الله أنني لم أسقط أرضا.. عدت إلى (سريري) في العنبر الخالي إلا مني بعد أن ودعنا الرجل الآخر.. داهمنى شعور أقرب إلى اليقين انني أيضا سأغادر المكان و ألحق به ميتا في نفس الليلة على (سريري)..
و اسأل ربنا دايما..
بحسن ختامنا في الدنيا
وتوبه نصيحه للآخره
توصلنا..لجنة ربنا الباقي
وباطلب..قلبي يتثبت على دينه
ويعفي عني مهما الذنب غرقني
في اليوم التالى زادوا من أنواع وجرعات الأدوية.. تنقلوا بى وأنا ممدد على (سريري) بين أروقة المستشفى وردهاتها والمعامل وغرف الأشعة.. بينما أنا شبه غائب في عالم آخر.. رغم ذلك و حينما جائنى طبيب يسألني عن حالتي.. أجبته أن الصداع علي وشك الإختفاء.. وأنني أصبحت في حاله جيدة تسمح لي بمغادرة المكان..

الجلطة هاجمت المخ
كان كل همى التخلص من هذه القيود التي تحيطنى من كل جانب.. قال لي الدكتور (أحمد الشرقاوي) الذى يتمتع بأخلاق راقية.
– لقد أعطيتك جرعه كبيرة حتى أسيطر على هذه الجلطة الذي هاجمت المخ وحاولت السيطرة عليه.. لن أتركك تغادر المكان دون أن يتم عمل إشاعات لمعرفة هل أثرت هذه الجرعة على صحتك العامة أم لا .. في حاله التأكد من عدم تأثيرها سأتركك تخرج بحريتك.. سنبدأ أولا بعمل أشعه مقطعيه على المخ..
على السرير تم نقلى على (سريري) عائدا مرة أخرى إلى حجرة الأشعة حيث ينتظرنى الجوف الهائل لجهاز الأشعة المقطعية..
بعد خروجى من الأسطوانة البغيضة للاشعة المقطعية أعادوني على (سريري) إلى العناية المركزة.. لم أكن قادرا عل ابتلاع أي طعام.. اكتفيت بكيس عصير طوال اليوم الأول..
في اليوم التالي أخذت الفطور الطبي الذي قدموه لي، فقسمت الرغيف ألى نصفين..والنصف إلى نصفين.. حضرت زوجتي وأولادي وزوجاتهم لزيارة خاطفة، فسألت زوجتى عن فوار فالمعدة حتى هذه اللحظة ترفض الهضم..
طلبت من الدكتور أحمد أن يسمح لي بالخروج ليعقب بأننى لابد من المرور على جهاز أخر اسمه (الدوبلير) لتصوير الرقبة من جميع الجهات.. في بعض الأوقات تكون بداية جلطات المخ كامنة في الرقبة..
مرة أخرى أخذوني الى حجره الدوبلير.. كنت شبه عاريا فى ملابس تشبه ملابس غاندي.. حافي القدم حيث لا يوجد في المستشفى شباشب أو أي شيء تنتعله.. كنت خجلا جدا من منظري..
خفت خجلى حينما لاحظت أن كل من يأتي إلى المكان ينتهون إلى نفس الحالة التي أنا عليها.. تدلدلت رأسي مرة أخرى إلى صدري.. فى انتظار دورى صادفت أمامى الشاعر (مجدي سالم) الذي أصر علي انتظار خروجى.. هو أيضا يقوم بعمل دوبلير علي رقبته..
لمدة ساعة تفحص الفني رقبتي من جميع الجهات بجهاز في يده بعدها أخبرني أنه على انتظار صدور التقرير.. في المساء خففت لى (الحكيمة) الأضواء حتي أستطيع أخذ قسط من النوم..

حجرة العناية المركزة
فجأة اقتحم العنبر شاب اسمه (أحمد فهيم) ليخبرنى في خشونة أنني الوحيد الموجود في هذه الحجرة .. وأنه سينقلنى الآن إلى حجره العناية المركزة الاخرى.. باندفاعة مفاجئة دفع بطريقة غاية في الخشونة مجتازا بى غرفة وراء أخرى أخرى في صلافة هائلة.
وقول إن الدموع هى صلاة مفروضه ع الإنسان
صلاة دايما.. تسافر للإله على طول
بتتكلم.. في يوم ما تهرب الكلمات
يا عاشق يا غريب لو يوم..
جميع أبواب حياتك إتقفل فيها الشعاع والنور..
مفيش قدام عنيك أكتر..
حقيقي من عيون واضحة..
في عين في الراس.. تبص تشوف هنا بالقلب منها الدنيا..
تنظر بيها للآخرة
وعين (السر) تبقى طريق.. لكل الدنيا والآخره..
عشان بصه عليه دايما
وقول مالي ومال الناس إذا مالوا أو انعدلوا
أنا ديني لنفسي ودين جميع الناس لكل الناس
وجدت نفسي فجأة على (سريري) أجاور سرير سيدة تشكو من أنها تنتظر منذ وقت تريد أن تذهب إلى دورة المياه.. رجل على سرير آخر يصرخ من التعب ليدخل بعد دقائق في نوبة من سكرات الموت و الغرغرة..
الجهاز يعلو رأسه مصدرا إشارات حمراء وأصوات تعد الوقت التنازلى للحياة لم استطع تحملها كثيرا.. ما زالوا بناءا على توصية الأطباء مستمرين في زيادة جرعات علاجى خشية مهاجمة الجلطة مرة أخرى .. أخبرتهم بضرورة مغادرتى هذا المكان صبيحة الغد.. قال لي الدكتور احمد الشرقاوي.. نريدك أن تخرج سالما حتى لا تعود لنا مرة أخرى..
استمر الجهاز الخاص بالرجل المحتضر يصدر إشاراته الصوتية البغيضة المحملة بصوت الموت مما جعل دقات قلبي تتسارع بشكل مرعب.. قلبي كاد أن يتوقف.. سددت أذنى بالمناديل الورقية دون جدوى.. استدعيت (الحكيمة) شاكيا وجع شديد في القلب.. أحضروا لي عربة يعلوها أجهزة رسم القلب.. كان جهاز الضغط يحيط ذراعى طوال ال24 ساعة..
سمعت (الحكيمة) تفضي للطبيب أن ضغطى 150 علي 120 ليعقب بخطورة ذلك مع حالة الجلطة.. سارعوا بمحاولات لخفض ضغطي الذي سببه لي هذا الممرض الذي اسمه (أحمد فهيم)، والذي هددته غاضبا أنني سأقدم مذكرة ضده لكنه خشية العواقب أحضر لي الدكتور (أحمد) ليستأذنني في عدم تقديم الشكوى!