بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
طاحونة هائلة من الأسئلة تدور في رأسي.. لماذا أنا هنا في هذه المستشفى ؟ .. ما السر وراء دموع صديقى (الشيخ أيمن) بعد جلسة فحص القلب (الإيكو) وإسراعه بسيارته مجتازا كل الإشارات والزحام في سرعة لنقلي إلى هنا؟ على أثر جلطة شديدة في (المخ)..
ما سر تتابع وصول زوجتى وأولادي وأسرهم بهذه الوجوه الفزعة والعيون الدامعة والقلوب المتلهفة؟.. أدركت أن الإجابات كلها عند الطبيب الذى وضع يده علي كتفي قائلا: سأسالك سؤال واحد.. بس عايزك ترد عليا بصراحة:
– اتفضل.
– اسم حضرتك إيه؟
لم يكن سؤالا.. لقد شعر بأنها جلطة شديدة في (المخ).. كان جبلا من الغموض هبط بثقله على رأسى .. بحر لجى من الحيرة غرقت تحت تلاطم امواجه.. حاولت رمى الحبل بالدلو إلى ظلمة بئر الذاكرة فخرج فارغا تماما.. لم أرد.. أخفضت رأسي حتى لامست ذقني صدري.. انفصلت عن نفسى أواجهها (ماذا حدث لك بالضبط؟).
ما اسمك ؟: (هل فقدت هويتك تماما؟.. وماذا يتبقى من هويتك وقد فقدت حتى عنوانها.. اسمك).. أصبحت الحقيقة ساطعة.. جلطة شديدة في المخ.. أى من مراكز المخ سينهار بعد دقائق؟.. مركز السمع؟..
بدأت التقاط الأصوات حولى لأحتفظ بموجاتها في أدراج الذاكرة.. قد تكون آخر اللحظات التي أسمع فيها هذه الأصوات الحبيبة على أثر جلطة شديدة في (المخ)… مركز الرؤية؟.. ككاميرا عميقة العدسات التقطت صورا تذكارية لملامح الأحباء حولي (الش.. الاتزان؟).
لا يسلم إلا للمهدئات
تخيلت صورا شديدة القتامة للقادم.. رأيت نفسى أنا معتاد سكن الجبال أهوي إلى وديان عميقة من الضعف و العجز.. وجهوا سؤالا لزوجتي عن آخر مرة تناولت فيها دواء السيولة.. قالت لهم: (لا أعلم.. هو يردد دائما أن كل الأدوية لا تزيد عن جير وحجاره و لا يسلم إلا للمهدئات).
ولو صابك مرض يبقى..
إله الكون خلاص اختارلك الغفران
ولو صابك بلاء مزمن..
هايبقى إلهك اختارلك..
تكون الرحمه فيك دايما
ورحمة ربنا لا تجف يوم أبدا ولا تخلص
طلبوا من (محمود) أن يكتب لهم إقرارا أنهم غير مسؤولين إذا ما حدث لي مكروه بعد أخذ الحقنه باهظة الثمن شديدة التركيز التي من الممكن أن تذيب الجلطة الشديدة في (المخ).. من ناحية لكنها مجهولة الآثار الجانبية من ناحية أخرى.. والتي تختلف شدتها من حالة إلى أخرى.. صاغرا أمام مرور الدقائق المشحونة بتهديدات الجلطة كتب لهم التعهد..
الوعي عندي ينسحب تدريجيا.. سلمنى للحظات إلى ضباب العالم الآخر ثم يجذبنى إلى عالم الواقع لدقائق أخرى.. زوجتي تطبطب على ظهري وصدري تنتحب خفيضا في لوعة دامعة: (مالك يا حبيب قلبي..هاتسيبني و تروح فين؟.. هاتسيبني لمين ؟..علشان خاطري خف بقى.. و خف الحمل اللي على قلبي.. دا إحنا قائلين لا إله إلا الله و أنت بتركب الأسانسير)..
توالت وخزات الحقن في كل أنحاء جسدي لحصار جلطة شديدة في (المخ).. كان القرار حاسما بالإجماع..لابد من نقلي إلى عنبر العناية المركزة بقسم المخ والأعصاب.. وسط صفارات الأجهزة التي تحصى الأنفاس وتعد العد التنازلى لما تبقى من حياة قاموا بتركيب قسطرة..
المرة الأولى التي أجرب فيها هذه العملية المؤلمة.. ثبتوا مئات الأنابيب والخراطيم و المجسات الإلكترونية على صدري و قدمي وعلى كل مكان في جسدي.. امتدت عشرات الأيدي تخلع عنى ملابسي بالكامل.. ألبسونى بالمقلوب قميصا كملابس الأمراض العقلية.. القميص أزرق يشبه ملابس السجن.. توالت الومضات في رأسى.. صدى أصوات مختلطة:
إلبس يا مسجون منك له.. عاوزين توقعوا عبد الناصر؟
(شمس بدران جالسا مع مصطفى أمين أقرأ عليهما قصيدة (الدنيا هيّ المشنقة) ليعلق: لو بايدى مش كنت هسجنك بس.. كنت شنقتك).
(شرشر نط عند البط .. فلفل قال عال العال.. الهيكل العظمى للمدرس الذى فقد عقله ممددا في زنزانته الانفرادية يحوم حوله الذباب في طنين بغيض).
مستشفى الأمراض العقلية
(عباس المغربى في قميص مقلوب يقودونه إلى مستشفى الأمراض العقلية و بحثى عن مصيره هناك بلا جدوى)
ايه ذنب عباس الفقير/ تكسر في روحه و تكسره
عنك (جاهين) قال الكتير/ شوهت شكله و منظره
استمر توارد الأطباء واحدا تلو الآخر.. سألني أحدهم: النهارده إيه؟
النهارده ..مش عارف السبت أو الأحد.
فكرت (فقدت من هويتى اسمى .. والآن فقدت الزمن..).
طيب قول لي: اللي كان واقف معاك من شويه دا مين؟..
في تردد أجبت – احتمال يكون (شادي أو محمود)..
آلام نفسية رهيبة إثر الجلطة الشديدة في (المخ).. صاحبت ما يضرب كيانى من تصدعات يتسرب منها الوعى والذاكرة .. كنت أتلعثم في الردود حتى فكرت في التزام الصمت تماما تجنبا للمزيد من الألم .. أصبحت لا أستطيع تكوين جمله واحدة بشكل مرتب لدرجة أنني لم أستطع قراءة الفاتحة بيني وبين نفسي.. تركوني وحدي وانصرفوا..
وما تفكرشى في اللي جاي م المجهول..
لأن الله..مدبر كل شيء في الكون
لأن الدنيا مش مخلوقه غير بالقادر الجبار
و قلب الكل فيه م القلب ما يكفيه
و لو ترضى..بقسمة ربنا ترتاح
أصوات الممرضات تأتيني كحلم بعيد.. فتحت عيني.. لم أستطع التحرك بين أسوار تحاصرني من كل جهة.. جالست نفسى أحاول تذكر ما حدث وتفسيره..تلفت حولى بعد فترة.. في العنبر سريريان فقط.. مزق أعصابى فجأة صراخ رجل على السرير المجاور..
تبينت بين صراخه حشرجات نزع الروح جراء الجلطة الشديدة في (المخ).. اعتصرتنى الجدران بأشد.. حاولت الهروب إلى النوم.. أفيق على صراخه وحشرجاته.. كان هذا هو الصوت الوحيد الذي أسمعه، وفي خلفيته صفارات الأجهزة الخاصة بي والخاصة بالمحتضر تعد الأنفاس وماتبقى من فرص الحياة ..
جلطة المخ اللعينة
أتوه لحظه ثم أعود لمراقبة الرجل.. جلطة المخ اللعينة.. ارتفع صراخ الرجل يمزق الوجود في العنبر.. ساد الصمت تماما بينما صرخت الأجهزة المتصلة به بصفارة متواصلة تعلن انتهاء مهمتها.. فى هدوء دخلت احدى الحكيمات العنبر تدير الموبايل على قرآن لمده دقائق كحداد روتينى..
بعدها ارتفعت ضحكاتهن العالية وعبثهن وكأن شيئا لم يكن.. مهمة في عملهن وانتهت وعليهن البدء في مهمة تالية.. حاولت أن أقرأ الفاتحة علي روح الرجل الذي لا أعرفه فلم أتمكن.. استرد الله وديعته..
حاولت أن أعود للنوم فلم استطع تماما.. كل بضعة دقائق حقنة.. أدويه في الفم.. تعليق لمحاليل.. تثبيت كانيولا.. و.. و.. و.. حاولت استرجاع ما كنت أقرأ عن الزهايمر.. بيني و بين نفسي لم أصدق أنني سأحرم من تنفس الشعر..
فجأة/ لقيتنى بين أيادى الله/ و مش قادر أقول البسملة
فجأه لقيت طيرى اللى كان عاش غنا مشلول على شباك خلا
الصدمة كانت جوه قاع الجمجمة/ بتهدد العصفور.. بنتف الريش
وهجرة كل أحبابه.. في رحله طويله جدا للسما
غمضت واتألمت.. واستسلمت للصمت اللى ضاغط ع العروق
المهر مش قادر يفوق/ والدنيا حواليه شروق مالهوش حدود
وكلبش .. بعد كلبش.. في سرير الوجع .. و التوهه.. بيدوسوا الصهيل
قنديل في آخر ومضه.. لسه بيترعش
و الوش كان في المخ .. مش جوه الودان
……………………..
** تذكرت عالم الكلي المصري الدكتور محمد صبح الذي يعالجني.. والدكتور الإنسان جمال متولي.. والدكتور المهذب شريف مصطفي.. والدكتور جمال زينهم أول من وصف لي علاج القلب.. ودكتور العظام المعروف محمد متولي..
هؤلاء هم الذين قاموا بعمل اللازم تجاهي ونصحوني دون جدوي بالاستمرار في أخذ الدواء باستمرار.. تذكرت أيضا هذا الملاك (الشيخ أيمن البياع)، الذي انطلق بسيارته في اتجاه المستشفي لينقذ حياتي.