

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
الرقابة العسكرية في (إسرائيل) واحدة من منظومات العمل الموروثة من أنظمة الطوارئ الخاصة بالاستعمار البريطاني في فلسطين منذ العام 1945، وعلى أساسها تمّ تشريع عدة قوانين إسرائيلية.
رسمياً: تعرف الرقابة العسكرية في (إسرائيل) برقابة الصحافة والإعلام، وهى وحدة تابعة للاستخبارات العسكرية تهدف إلى مراقبة مسبقة للمضامين المتعلقة بأمن الدولة.
في السنوات الأخيرة، بدأت الرقابة العسكرية الإسرائيلية تتدخل أيضاً في عمل الأرشيفات الرسمية، خاصة بما يتعلق بعملية رقمنة المستندات ونشرها عبر الإنترنت.
وطبقاً للقانون الإسرائيلي الخاص بالرقيب العسكري، فهو المسؤول عن ضمان أن لا تتضمن أي مادة تُنشر جماهيرياً وتنتقل بين الأشخاص معطيات قد يؤدي نشرها إلى المساس بـ (أمن الدولة)، وسلامة الجمهور، والنظام العام.
وهكذا تقوم الرقابة العسكرية بفحص مضامين قنوات التلفزيون، والإذاعات، والإنترنت، والصحف، والكتب، فتمحو بنفسها مقاطع، أو تأمر الناشر بمحوها.
الرقابة العسكرية، العاملة في مقرها المركزي في (بني براك) في تل أبيب، يُفترض أن توازن بين الحق بالتعبير والنشر والعمل الصحفي وحق الجمهور بالمعرفة من جهة، واحتياجات الأمن من جهة أخرى.
وسبق أن حدّدت المحكمة الإسرائيلية العليا أن الرقيب العسكري لا يستطيع إلغاء نشر مادة صحفية إلا إذا كان نشرها موضوعياً يمسّ باحتمالات عالية بأمن الدولة وسلامة الجمهور ونظامه العام.

أوسع هجوم على حرية الصحافة
مع اتساع نطاق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والمتواصل منذ أكتوبر 2023 وحتي الآن، زادت وطأة التشديد التي تفرضها الرقابة العسكرية الإسرائيلية على الصحافة والإعلام، وهو ما كشفه المدير التنفيذي للمجلة (حجاي مطر) في مقال نشرته مجلة +972 الإسرائيلية أن وحدة الرقابة العسكرية التابعة للجيش شنت أوسع هجوم على حرية الصحافة في البلاد العام المنصرم، محطمة بذلك الرقم القياسي في عدد المواد الإعلامية التي حظرتها.
بحسب الكاتب بلغت الرقابة العسكرية أعلى مستوى لها في 2024، حيث منعت نشر 1635 مقالا بشكل كامل، وحجبت أجزاء من 6265 مقالا.
لافتاً إلى أن الرقابة العسكرية – وهي وحدة استخبارات في الجيش الإسرائيلي – تدخلت في نحو 21 تقريرا إخباريا في يوم واحد بالمتوسط خلال 2024، أي أكثر من ضعف الذروة السابقة التي بلغت نحو 10 تدخلات يومية خلال عملية (الجرف الصامد) على قطاع غزة في عام 2014، وأكثر من 3 أضعاف المتوسط في غير أوقات الحرب البالغ 6.2 في اليوم.
مرجحاً أن يكون السبب الرئيس وراء هذا الارتفاع غير المسبوق في الرقابة هو الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل في غزة، بالإضافة إلى صراعاتها في لبنان وسوريا واليمن وإيران.
ووفقا له، قدمت وسائل إعلام (إسرائيل) العام الماضي 20 ألفا و770 مادة إخبارية إلى الرقيب العسكري لمراجعتها، أي ما يقرب من ضعف إجمالي العام السابق، و4 أضعاف العدد في عام 2022.
وتدخل الرقيب في 38% من تلك المواد بارتفاع 7% من الذروة السابقة المسجلة في عام 2023، في حين رفض بشكل كامل 20% منها، بزيادة 18% عن نفس السنة.
وقال (مطر) إن المفارقة تتمثل في أن اليوم العالمي لحرية الصحافة – الذي يصادف الثالث من مايو من كل عام – يأتي هذه المرة في ظل هجوم غير مسبوق على ما تنشره وسائل الإعلام وفي مرحلة قاتمة تمر بها الصحافة الإسرائيلية.
وأضاف أن (إسرائيل) احتلت في العام الماضي المرتبة 101 من أصل 180 في مؤشر حرية الصحافة لمنظمة مراسلون بلا حدود، وقد تراجع هذه الترتيب الآن إلى المرتبة 112.
ويعكس هذا التقييم – من وجهة نظر (مطر) وهو صحفي وناشط سياسي – حالة الصحافة داخل إسرائيل، دون أن يأخذ في الاعتبار القتل الجماعي للصحفيين في قطاع غزة.

العدد يصل إلى 232
ونقل عن لجنة حماية الصحفيين في نيويورك – وهى منظمة غير حكومية تهدف إلى حماية حرية الصحافة والدفاع عن حقوق الصحفيين – أن ما لا يقل عن 168 صحفيا وإعلاميا فلسطينيا قُتلوا في غزة على يد الجيش الإسرائيلي خلال الحرب، وهو عدد يفوق أي نزاع عنيف آخر سُجِّل في العقود الأخيرة، لكن منظمات أخرى تفيد أن العدد يصل إلى 232.
ولفت إلى أن إسرائيل تتعامل مع الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام في غزة على أنهم أهداف عسكرية مشروعة، وادّعت في أكثر من مناسبة أن صحفيين آخرين قتلتهم كانوا على صلة بحركة حماس، إلا إنها كعادتها لم تقدِّم أي دليل على ذلك.
لكن الصحفيين في غزة لا يتعرضون فقط لخطر الموت من القصف الإسرائيلي، بل يعانون أيضا من الجوع والعطش والتشرد في كثير من الأحيان، كما يؤكد (مطر) الذي يزعم أنهم يواجهون أيضا قمعا من حركة حماس نفسها بسبب انتقادهم لها أو لتغطيتهم الاحتجاجات ضدها.
وفي الوقت نفسه، درجت (إسرائيل) بشكل منهجي على اعتقال وسجن الصحفيين الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية على حد سواء، وغالبا دون توجيه تهم لهم، كشكل من أشكال العقاب على التغطية الصحفية الناقدة لها.
وأفاد أن هذا القمع تسارعت وتيرته خلال الحرب الحالية، وتجلى ذلك في منع وسائل الإعلام، مثل قناتي الجزيرة والميادين، من العمل في (إسرائيل)، كما لاحقت الحكومة الصحافة الحرة داخل إسرائيل، حيث اتخذت خطوات لإغلاق قناة (كان) العامة، وخنقت ماليا صحيفة هآرتس الليبرالية اليومية.
وتعمدت إضعاف وسائل الإعلام العريقة، فيما تقوم بتمويل وسائل إعلام جديدة موالية لها من الخزينة العامة، مثل القناة 14. وعلاوة على ذلك، فرضت حكومة رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو) قيودا صارمة على العمل الإعلامي.
لكن (مطر) يرى أن الضربة القاصمة التي تعرضت لها الصحافة الإسرائيلية لم تأت من الرقابة الحكومية، بل مما وصفها خيانة غرف الأخبار لمهمتها الأساسية، وهي إعلام الرأي العام بحقيقة ما يحدث من حوله.
واتهم الصحفيين الإسرائيليين – حتى أولئك الذين أعربوا ذات مرة عن ندمهم على عدم تغطية ما كان يحدث في غزة في الحروب السابقة – بتعمدهم التعتيم على المستشفيات التي تتعرض للقصف والأطفال الذين يتضورون جوعا والمقابر الجماعية التي يراها العالم يوميا.

من أين بدأت؟
وبدلا من أن يكونوا شهودا على حقيقة ما يحدث في الحرب، أو أن يوصلوا أصوات الصحفيين المقيمين في غزة – ناهيك عن إظهار تضامنهم معهم- انخرط معظم الصحفيين الإسرائيليين في جهود الدعاية الحربية إلى حد الانضمام إلى القوات المقاتلة في القطاع، واعتبر (مطر) ذلك تواطؤا من الصحفيين الإسرائيليين وليس إكراها تعرضوا له من الرقابة العسكرية.
ترتبط نشأة جهاز الرقابة العسكرية في (إسرائيل) بإقامة الدولة في سنة 1948، وهو تابع لشعبة المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي (أمان)، وهدفها تنفيذ الرقابة الصارمة ومنع تداول أي معلومات قد تضر بأمن إسرائيل أو السلم العام أو النظام العام.
ويعمل جهاز الرقابة العسكرية وفقاً لأنظمة الطوارئ البريطانية لعام 1945 سيئة الصيت، التي تتمسك بها (إسرائيل) في عدة مجالات، مثل فرض الاعتقال الإداري، الذي يسمح باعتقال أي شخص دون تهمة أو محاكمة لمدد مفتوحة ولا نهائية، ويُستخدم بالأساس ضد الفلسطينيين، وأحياناً ضد بعض المتطرفين اليهود الذين يمارسون الإرهاب.
أما الرقيب العسكري، فهو عادة يفحص البث التلفزيوني والإذاعي والإنترنت والصحف والكتب، ويقرر حذف معلومات بعينها أو طلب حذفها من موظفي تلك المنظمات الإعلامية، وقد يتنصت أحياناً على المكالمات الدولية في إسرائيل للتأكد من عدم إفشاء أي معلومات محظورة للخارج.
كما يستطيع الرقيب حظر مادة إعلامية قبل أو بعد نشرها، ويملك صلاحيات واسعة لمعاقبة أي جهة تنشر معلومات محظورة، بما في ذلك إغلاق تلك المؤسسات الإعلامية ومصادرة معداتها، أو إلغاء تصاريحها الإعلامية دون إبداء أسباب.

مندوب في كل صحيفة
ورغم أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تُعتبر المتضرر الأكبر من أنظمة الرقابة، كونها تمس بحرية النشر والتعبير، فإن الجيش تمكَّن من تطويع رؤساء التحرير، منذ عام 1948، والاتفاق معهم على آلية عمل مهادنة.
وينص الاتفاق على أن يجتمع رؤساء التحرير مرة في الشهر مع مسؤول كبير، من رئيس الحكومة إلى وزير الدفاع أو قائد الجيش، فيقدم المسؤول إحاطة تتضمن بعض الأسرار، فيلتزم المحررون بالامتناع عن النشر بحسب طلب السلطة.
كما قرر الجيش التسهيل على المحررين، وبدلاً من إرسال المواد ذات المواضيع الحساسة لمراقبتها، تم تعيين مندوب عن الرقيب في كل صحيفة يعطي رأيه وموقفه حول النشر فورياً.
بموجب هذا الترتيب، أُتيح شطب آلاف الأنباء أو تعديل النشر؛ فعلى سبيل المثال في سنة 2021 التي هاجمت فيها (إسرائيل) جبهة (الجهاد الإسلامي) في غزة، تم تقديم 7413 خبراً للرقيب العسكري، فشطب منها 129، وتدخل في مضمون 1313 خبراً، حيث شطب فيها كلمة أو جملة أو أكثر.
وفي سنة (2023)، التي اندلعت بها الحرب على غزة، تم شطب 613 خبراً، وفي شهر إبريل الماضي وحده تم شطب 242 خبراً بالكامل، وشطب جمل في 698 خبراً.
والمواضيع التي يتم شطبها تتعلق بحجم الخسائر الإسرائيلية في الحرب؛ حيث تقرر عدم الإفصاح عن العدد الدقيق للقتلى والجرحى وهوية كل منهم، وعن تحركات الجيش ونوعية أسلحته؛ خصوصاً الأسلحة والذخيرة الجديدة التي تُستخدَم لأول مرة.
وهناك نوع من الرقابة الذاتية، التي قررها محررو الأخبار في الصحف والقنوات التلفزيونية والإذاعية، من دون حاجة لأوامر الرقابة، وبموجبها امتنعت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن نشر الحقائق حول الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية وفي لبنان، منذ 7 أكتوبر الماضي.
وفعلوا ذلك ضمن الالتزام بموقف موحد وراء الجيش، مهما فعل، ولقد كسرت هذا الإقرار صحيفة (هآرتس) وبعض المواقع اليسارية، لكنها لم تستطع نشر كل ما وصل إليها من معلومات رهيبة، فنشأ وضع يكون فيه العالم على معرفة بممارسات (إسرائيل) ويشهد مظاهرات جبارة ضدها، وفي القيادة الإسرائيلية يعدّونها مظاهر معادية للسامية ولليهود.
لكنّ هؤلاء المحررين (ومعهم المراسلون العسكريون ومعلقون ومحللون) يبررون تصرفهم بالقول إن الجمهور الإسرائيلي لا يريد أن يعرف ماذا يجري في غزة، ولا يهمه ما يعانيه الفلسطينيون.. إجمالاً هذه حقيقة إسرائيل، وهكذا هو وضع الإعلام والصحافة بها.. لا حرية ولا ديموقراطية.. القمع للجميع.
وللحديث بقية..