
بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
إذا نظرنا إلى (التاسوع المصري)، وهذا التاسوع خاص بـ (هيليوبلس)، نجد (آتوم) على قمته، وذكرنا أنه (آدم) أبو البشرية، وإذا نظرنا إلى بقية أعضاء التاسوع، نجد (أوزيريس) وأخيه (ست)، في حالة من الصراع على حكم مصر، ونعرف أن (ست) قتل أخيه (أوزيريس)، وهذا ما حدث بالفعل بين إبنى (آدم).
ولكن هذا التاسوع لم ينسب (أوزيريس) و(ست) إلى (آتوم)، بل لجب ونوت، وهذا راجع إلى كون (آتوم)، في المعتقدات المحرفة، يعني أنه الكامل أو التام، وفي أحد الأساطير المصرية القديمة عن نشأة الكون، يعتقدون أن (آتوم) خلق نفسه بنفسه على قمة التل الأزلي، ومن ثم فهو خالق العالم.
ثم قام بخلق (سو الهواء وتفنوت الرطوبة) عن طريق البصق أو المني، ويوصف بأنه ذكر وأنثى، وهذه القصة المحرفة عن (آتوم)، تكونت بعد الطوفان، والدليل (التل الأزلي) الذى كان أول ما ظهر من الماء.
ولكن هذه الخرافة خاص بمدينة (هيليوبلس)، والأمر يختلف تماما في الفكر الديني لمدينة (منف)، وهى عاصمة مصر القديمة بعد توحيدها من قبل الملك مينا، وكان الإله الخاص لها هو (بتاح)، الصانع الأعظم الذي خلق العالم، والتي مثلت بها مسرحية بدء الخليقة.
و موضوع هذه المسرحية يتحدث عن (آتوم) – آدم عليه السلام – فبداية المسرحية تتحدث عن خلق مصر بواسطة (بتاح)، وأنه هو الذي خلق العالم بوساطة الإله (آتوم)، إذ كان ينظر إلى بتاح على أنه إله خالق، وحرفي إلهي للكون، كان مسؤولاً عن كل الوجود.

الخلق نشاطًا جسديًا
كان الخلق في البداية نشاطًا روحيًا وفكريًا، سهله القلب الإلهي (الفكر) واللسان (الكلام/ الكلمة) لبتا، ثم أصبح الخلق نشاطًا جسديًا قام به (أتوم)، ويذكر في معتقد مدينة (منف) أن بتاح خلق (آتوم) من الطين.
وهكذا نرى أن قصة (آدم) عليه السلام قد حرفت بطريقتين:
الأولي في هيليوبلس
فقد اعتقد كهنة هذه المدرسة في جسد (آدم)، وهذه أولي العقائد البشرية في التاريخ التي تظهر لنا بصورة توضح الفكرة التحريفية من أساسها، وكان الاعتقاد بحكم أن (آدم) عليه السلام كان أول البشر.
وبعد ذلك خلقت من ضلعه (حواء)، فتوهموا أن (آتوم) قام بخلق (شو)الهواء و(تفنوت) الرطوبة عن طريق البصق أو المني، و(شو) كما أوضحنا من قبل يشير إلى نفخة الروح في (آدم)، والرطوبة هى الماء الذي مزج بالتراب وتحول إلي طين وخلق منه (آدم).
ووصف بأنه ذكر وأنثى لخروج الجنس البشري منه من إناث وذكور، وأسقطوا زواجه من (أشتى) ومنها التي تحيا (حواء) حتى تستقيم الفكرة، ولكن ذكر المني الخاص بآدم يفضح كل هذا التحريف.
بل ذكر (معبد إسنا) ينص على: أن الإله خنوم على الجداران، وفي بعض البرديات يقول (راع): قام بخلق أول إنسان من الطين، وأعطاه اسم (آتوم)، أو (آدوم)، وشكله من التراب وماء النيل وأصبح الطين الصلصالي (الفخار).
وعندما وجد (آتوم) وحيدا شكل له الأنثى (إشيت) أو إشتي (واسمها يعني التي تحيا بمعنى حواء)، والمصريون ينسبون نفسهم إلي الجد (آتوم)، وبهذا نرى ونلاحظ أول عقيدة تحريفية خاصة بالجسد الإنساني في التاريخ، وهذه العقيدة كانت موجودة في هيليوبلس.
أما التحريف الثاني خاص بمدينة منف
فهم يعترفون بخلق (آتوم) من الطين، وقد خلقه (بتاح)، ولكن خلق (بتاح) العالم بواسطة (أتوم)، وهذا هو التحريف الثاني، فـ (بتاح) خالق (آتوم، ولم يذكروا أن (آتوم) خلق السموات والأرض، بل قالوا أن (بتاح) خلق العالم بواسطة (آتوم)، والعالم الذي يقصده النص ليس السموات والأرض بل هو (خروج الجنس البشري منه، بصناعاته وحرفه، وعلومه).
وكما ذكرنا من قبل أن مصر كانت على التوحيد الخالص (ولقد عبد المصريون إلهاً واحداً، خالق الأرض: إنه إله الفخراني، حرفي، قام بتشكيل خلقه بواسطة الطين الصلصالي ومياه النيل.. بعد ذلك نفث فيه من روحه).

العقيدة الأصلية لديانة البشر
ومن خلال مدرسة هيليوبلس، ومنف، نجد التحريفات وانبثاق معتقدات زائفة دخلت في لب العقيدة الأساسية، ولأول مرة في التاريخ نجد العقيدة الأصلية لديانة البشر، والطريقة التي حرفت بها، من خلال النصوص والمدونات التي وصلت إلينا.
ولكي يقنع الكهنة اتباعهم بهذه العقيدة اعتمدوا على الثقافة الحسية (وهى معرفة التأثير والتأثر في الإنسان)، واستغلوا فن التمثيل في هذا العرض، وأظهروا (آتوم) في عروضهم كملك للآلهة يحكم وتأتمر بأمره، وهذا ما نوضحه بأمثلة من النصوص المسرحية القديمة
المشهد الأول
المرأة: ولكن كيف تعلمين أن ذلك الذى سوف تضعينه في داخل البيضة هو من أجل الإله السيد ووريث آلهة العناصر؟
إيزيس: أنا إيزيس أكثر الآلهة شهرة وقداسة، إن الإله الذى بين أحشائي هو غرس أوزيريس.
(يتدخل (آتوم) ليؤكد أن في أحشائها غرس أوزيريس).
(آتوم): يقول هذه التي حملت سرا، هى فتاة حملت وستضع دون تدخل من الآلهة حقا، وهذا يعني أنه غرس أوزيريس، وليحجم هذا العدو الذي قتل أباه عن تحطيم البيضة الصغيرة، وليضمن الساحر الأكبر له الاحترام ولتطيعوا أيتها الآلهة ما تقوله إيزيس.
إيزيس: لقد تحدث (آتوم) سيد قصر الصور الإلهية، وقد التزم من أجلي بحماية إبني في أحشائي، ووضع حارسا خلفه داخل هذا الصدر، ولتضمنوا حماية هذا الصقر الذى في الأحشاء.
المشهد الثاني
وفي مشهد آخر يصور وضع إيزيس لحورس، عندما ولدته نجد ظهور (آتوم) ليعلن عن مولد (حورس) ويقول:
(آتوم): هيا يا رب الأرباب، أظهر للعالم وأنا ضامن لك أن يعبدك ويقوم على خدمتك رفقاء أبيك أوزيريس، سأضع اسمك حين تبلغ الأفق وتقترب من أبراج ذلك الذى اسمه خفيا، إن القوة تترك جسدي ويستمسك الضعف بجسدي، وحينما يستمسك الضعف به ينحني ويرحل المضيء ويختار مكانه جالسا أمام الآلهة بين حاشية المتقاعدين.
(ملحوظة الذي اسمه خفيا: هو الله الإله الأعظم الذي لا تدركه الأبصار)
(آتوم): رائع يا ولدي (حور) ولتبق في بلد أبيك (أوزيريس) باسمك الذى هو الصقر الذى فوق أبراج قصر ذلك الذى خفى اسمه، إنني أطلب أن تكون بين رفاق إله شمس الأفق في مقدمة سفينة الإله الخالق أبدا.

اعتمد الكهنة على فن التمثيل
ولكن لماذا اعتمد الكهنة على فن التمثيل لتوصيل هذه الأفكار المحرفة؟
والإجابة أننا ذكرنا الإنسان يمتلك جهاز حسي (المدركات الحسية – المدركات الذهنية – المشاعر الخارجة الناتجة عن التأثير)، وقد عمل الكهنة على استغلال هذه الجهاز الحسي عند المشاهدين وقدموا لهم تلك الأفكار بشكل تمثيلي تأثيري.
وهذا راجع إلي معرفتهم بما يؤثر في عواطف الجمهور فإيزيس متهمة في شرفها من المرأة، ويسبق ذلك مأساة قتل زوجها فبمدمج هذه الحادثة مع حملها ومعانتها واتهامها يدرك الجمهور هذا بالحواس الخمسة، وبعد ذلك يدخل إلي الذهن، فهل يصدق هذا أم يرفضه؟
ولكن الكهنة غذوا ذهنه قبل العروض التمثيلية، بتلك الخدع، وأنهم على اتصال بعلم غيبي يحي به هؤلاء الآلة ويخبرهم بما حدث، ولكن هذا لن يكون كافيها في العرض، ولكن ذهن المشاهد سوف ينصرف إلى عاطفة المرأة المهانة في شرفها والمفجوعة في وفاة زوجها، ويغطي هذا على الكذب.
وبعد هذا سوف ينفعل بمشاعره تجاه إيزيس، وتظهر عليه مشاعر كاذبة متعصبة، ولكن لابد من وسيلة مقنعة أكثر، فيظهر (آتوم) أبو البشر ليثب براءة إيزيس، ويعتقد الجمهور إن هذا حقيقي، ولكن لقد تم وضع جهازه الحسي تحت مؤثرات كاذبة، وبالتالي تخرج مشاعر كاذبة!
ويبقى سؤال لماذا تخرج تلك المشاعر الكاذبة من الجمهور؟
إذا عدنا إلي العرض الأول في التاريخ البشري (الغراب)، والذي تحدثنا عنه سابقا، سوف نري أن العرض تحدث عن حدث حقيقي مر به القاتل، ولهذا عندما شاهد العرض كان ما فعله مخزن في ذاكرته فتألم وندم.
ولكن في العرض المصري المحرف اعتمد الجمهور على الكهنة وهو لا يعرف إن كان هذا كذب أم حقيقة، وبالتالي الجمهور بلا ذاكرة مخزنة، ولهذا تتولد المشاعر الكاذبة لدى الجمهور.
ونكمل قصة (ابني آدم في المقالة القادمة).