

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
انتهت حلقات مسلسل (خريف القلب)، وذهبت معها متعة خاصة أصابتني طوال (87 حلقة)، حيث قدم المسلسل درسا في الحب والعطاء بلا حدود، صحيح أن طول الحلقات أصابنا بقدر من الملل، لكنه ودعنا بغصة في القلب، فقد اعتدنا دروس (نهلة/ إلهام علي) اليومية في خلق السعادة من قلب الألم.
الفنان القدير (عبد المحسن النمر)، والفنانة الجميلة والرائعة (إلهام علي) صنعا في مسلسل (خريف القلب) ثنائيا غاية في البساطة، قريب من القلب، حيث عزفا سويا عزفا شجيا على أوتار المشاعر الإنسانية، التي تؤكد أن الفطرة السليمة ماتزال تسكن البيت السعودي في ظل تقلبات العصر التي أنهكت الإنسانية وأصابتها بالشلل.
يدرك المرء أن أمور الحياة كثيرة، ومشاغلها أكثر ومتطلباتها لا تنتهي، وتسير الحياة بالطول والعرض وتواجه المرء عقبات عدة في الحياة، لكن (عبد المحسن النمر، وإلهام علي) قدما لنا دروسا في الصبر على الأزمات التي اعترت حياة (راشد ونهلة)، ليثبتا أنه بالحب تهون قساوة الحياة.
فالحب هو هرمون الحياة الذي لا تستغني عنه (نهلة)، وهو موجود بكل الأشكال والألوان فهو الذي كان يعطي لوجودها اللون، الشكل، الطعم، الرائحة، النكهة، وهو ما شكل الشخصية الهادئة الناعمة التي تفيض حبا وحنانا في كل حلقة من حلقات (خريف القلب)، حيث تطل علينا في كل مشهد بابتسامة تعلو جبهتها الناصعة، حتى في لحظة وداعها الأخير ترقد في سلام على سرير المرض، وكأنها مريم المجدلية.
ترجم كل من (عبد المحسن النمر، وإلهام علي) في مسلسل (خريف القلب) حقيقة مهمة مفادها: أن حب الأسرة بكل أفرادها وراء نجاحها وإتمام مسيرتها، وحب الناس هو أساسه التلاحم، التعاون، التكاتف، الصداقة الحميمة، عندما يوجد الحب بين الناس يكون التراحم والترابط فيما بينهم والقضاء على الحسد، والشر.
تجلى هذا الثنائي في العقد بوجود الحب ومن خلاله، فالحب بالفطرة موجود داخل الإنسان ولا يستطيع القضاء عليه لأنه القوة الوحيدة المحركة للإنسان، وعلى الرغم من تكرار حالات الغزل بينهما إلا أنك لا تمل من تكرار كلمات الحب، لأنه قائم على الرحمة التي تولد من رحم الأخلاق الرفيعة.


(عبد المحسن النمر).. صافي القلب
مع الحب في (خريف القلب) تصفو الحياة.. هكذا أكد لنا (عبد المحسن النمر) بملاحه القاسية، وهو الذي برع في كافة الأدوار البدوية وأدوار الشر من قبل، لكن السمت الذي لازمه طوال الحلقات كان دائما ما يعكس صفاء القلب ونقاء السريرة، وهو ما بدا لنا كثيرا في مشاهد الحب مع (إلهام علي)، تلك الغزالة الشاردة في فضاء التمثيل الاحترافي، مستندة إلى موهبة حقيقية.
ربما هناك البعض الذي يؤيدني، والبعض الآخر يعارضني، في حالة كل من (نهلة وراشد)، لكن الدليل على صحة ما أقول هو الحب الكبير (حب الخالق العظيم) جل شأنه، فالحب لله سبحانه وتعالى هو وراء الإيمان والتصديق به واليقين بوجوده وعظمته، هكذا وردت عبارات حب الخالق والتسليم بمشيئة على لسان هذا (الثناثي الرائع).
كان (راشد ونهلة) يؤديان ويعملان كل ما يأمرنا به الخالق (سبحانه وتعالى) ويحرصان على كل شيء لنيل رضاه وحبه، فمن أحبه الله أحبه الناس، فالحب متبادل في كل شيء، فمن طلب وسعى لنيل حب الله ورضاه في الدنيا والآخرة أحبه الله، وكذلك يجزيه خيرا في الحياة، فالحب عطاء بلا حدود.

الحب الخالي من الأطماع
كم كان جميلا ذلك الحب الخالي من الأطماع والمصالح بين (نهلة، وراشد) وفيه تكون الحياة ربيعا والعمر أطول والقلب في شباب دائم، فالحب هرمون الحياة وسر البقاء – ويكفي المرء أن يعيش طيلة حياته كالشمعة تحترق لتضيء للآخرين – ربما رحلت نهلة قبل أن تكتمل سعادتها براشد، لكن روحها تظل ترفرف حول كل أفراد الأسرة التي أحبتها وأخلصت لها.
(كم هو جميل ذلك الحب
الخالي من الأطماع والمصالح)
هذا ما أكدت عليه (نهلة) طوال حلقات (خريف القلب)، رغم مرارتها القاسية عندما سكن (السرطان) اللعين رأسها، ثم انتشر في باقي الجسد الهزيل المتعب بفعل المؤامرات التي حيكت لها من جانب طليقها (حمود)، أو غريمتها (فرح/ طليقة راشد)، أو حتى (أمل) ابنتها التي تربت في كنفها قبل أن تعرف أنه تم تبديلها في حضانة المستشفى.
في كل لحظة من لحظات حياتها التعيسة التي وضعتها في براثن الفقر رغما عنها كان للحب معاني سامية في قلب (نهلة) الحزينة التي تبدو راضية بقدرها، وهو ما بدا لي طلسما طوال حلقات (خريف الغضب)، حتى أن العلم لن يستطيع أن يحلل أو أن يصل إلى تفسير كامل لهذه الكلمة البسيطة في نطقها الصغيرة في حجمها.. ولكنها ثقيلة بمعانيها.. كبيرة بمحتواها.

(إلهام علي).. الحب عطاء
ظل السؤال الحائر على لسان (نهلة وراشد): كيف يسأل المحب عن العطاء والعطاء قاعدة الحب، أخواتي العطاء ما ينبني عليه الحب وهو أساسه، فإذا لم يعرف المحب العطاء فهو لم يعرف معنى الحب، فهو جاهل في مدرسة الحب، العطاء قاعدة أو أساس ما يبنى عليه كل علاقة حب.
بحيث أن كل ما كان العطاء قويا كان الحب أقوى، فالعطاء لا ينحصر في أي شي مادي، العطاء حتى في تبادل الحب والحنان، العطاء في تبادل الفرح والحزن.
جاءت الحلقة الأخيرة من مسلسل (خريف القلب) لتختتم بإن الحب أكبر من أن يوصف أو يجعل له شروطا ومواصفات، فبدون عطاء لا يسمى حب.. يبقى الحب شعور داخلي..الحب إحساس جميل، خاصه إذا كان من تحب يبادلك العطاء.. ربما لازال الحب بمعانيه الراقية موجود بين المحبين بإخلاص وعطاء.
حلقة النهاية لخصت كل معاني الحب، لكنها كانت موجعة للقلب والنفس التي اعتادت طوال الحلقات فصولا من الحب الصافي بين (راشد ونهلة)، وذلك الحب النقي بين (نهلة) و(شوق/ ميرال مصطفى)، ابنتها الحقيقية التي ورثت جينات الطيبة والحنية وبراءة المشاعر من أمها.
لن أنسي مشهد وداع (راشد) لـ (نهلة)، وهو يتمتم بكلمات ملئها الحزن والشجن.. وداع موجع، فقد كان قلبه يعتصر بالألم ليلخص (عبد المحسن النمر) مجمل إبداعة التمثيلي في أداء هذا المشهد، والمشهد الأخير وهو يستقل سيارته هائما على وجهه في شوارع الرياض المزدانة بأضوئها المبهرة، بينما هو يستعرض ذكريات الأيام الجميلة مع التي قضاها في كنف (نهلة الحب والحنان).

المبدعة (لبنى عبد العزيز الخالدي)
فضلا عن إبداع فياض بالطاقة الإيجابية التي تؤكد صدق موهبة (عبد المحسن النمر)، و(إلهام علي)، وهو ما أكدته سابقا في مقال لكل منهما، كان على الطرف الآخر فصولا أخرى من صدق الأداء للمبدعة (لبنى عبد العزيز الخالدي)، التي كتبت عنها – قبل شهر تقريبا – مستعرضا إماكاناتها التمثيلية.
لكني لابد أسجل هنا إعجابي الشديد بأدائها فائق الجودة في شخصية (فرح) النزقة المتطرفة في مشاعرها، في تقلباتها وثباتها على العند حتى النهاية، وكأنها أفعى تفوح برائحة الشر المطلق، إلى الحد الذي جعلنا نكرهها حتى الثمالة، وهذا قمة الصدق في الأداء.
وكعادته أبدع القدير (إبراهيم الحربي) بخبرته وحنكتة في الأداء الاحترافي الذي يمثل السهل الممتنع، بلغة جسد رشيقة، وعيون معبرة عن الحزن والفرح في موقف واحد، وهو ما أظهر موهبته المسرحية في الأداء الانفعالي أحيانا والهادئ في أحاييين كثرة بحساب على الشعرة.


تجليات الشيطانة والملاك
أعجبني أيضا الشيطانة (أمل/ جود السيفياني) التي تضج عيونها بشرارة الموهبة، فضلا عن امتلاكها لغة جسد قوية في حدتها الزائدة والمنفرة عن الحد، وسكونها القليل جدا، وهو ما يؤكد موهبة سعودية شابة قادمة على الطريق.
أذهلتني ملاك المسلسل (شوق/ ميرال مصطفى)، تلك التي تنحدر (لأب لبناني، وأم سورية)، لكنها امتكلت قدرة هائلة على إتقان اللهجة السعودية، فلم تفلت منها هنة واحدة في التعبير عن الفتاة السعوديةوالوعي العصرية التي تجمع الأصالة بالمعرفة وعمق الإحساس الذي يفيض بالمشاعر.
أما (مشاري/ تركي الشدادي)، فقد كان دقيقا للغاية في انفعالاته وحنوه البالغ في التعامل مع أم عنيدة وأب يحمل قدرا هائلا من العطاء والحب، وأخت طيبة بالفطرة وحبيبة ذات أنفة شديدة، وكذلك (تركي الزهراني) الذي لفت نظري بأدائه بالغ الصعوبة، ولست أدري لماذا يظل هذا الممثل غائبا عن أعين (المخرجين والمنتجين) حتى الآن.

(هند محمد).. فاكهة المسلسل
الكوميديانة المسرحية والمذيعة السابقة (جواهر/ هند محمد)، كانت فاكهة هذا المسلسل رغم حماقاتها وجنوحها نحو المؤامرات الخائبة على (نهلة)، وحتى شقيقها (حمود/ فيصل الدوخي) المسرحي العتيد الذي أبدى ثباتا إنفعاليا محسوبا بدقة في مشاهده التي أظهرته زوج فاشل، وإنسان ندل مع كل أهله وذويه.
إلى حد قريب لم أكن أؤمن بموهبة وقدرة (إيلاف/ مهيرة عبد العزيز)، حتى أمعنت النظر جيدا في دروها كمحامية شديدة المراس، حتى أقنعتني هذه المرة بأنها ممثلة تجيد التمثيل كحرباء تتلون حسب المواقف والأحداث التي ساهمت في فاعلية الأحداث إلى حد كبير.
وبالطبع لا أنسى ناعمة الأداء (منى/ فاطمة الشريف) التي لم تهتم بمكياجها طبقا لمواصفات الدور، بقدر حرصها على الأداء بعذوبة، ومعها أيضا (ناهد/ مروة محمد) التي تملك طاقة إيجابية قوية استطاعت أن تضبط إيقاع العمل، خاصة احتوائها لنهلة في كافة المواقف الصعبة.
أيضا لابد لي من الإشادة بـ (ماجد/ نذير غليون) ذلك الممثل السوري، الذي قدم دور المحامي بحصافة شديدة، دون انفعال يشتت إنحيازاته المطلقة في الحق رغم صداقته الوطيدة لراشد السرب، الذي يمثل العمود الفقري للعائلة السعودية القوية الصلبة في مواجهة تيارات الحياة.
ختاما: ذهب مسلسل (خريف القلب) وترك في القلب غصة أو جرحا غائرا في القلب، لأنني سافتقد متعة المشاهدة النظيفة لمسلسل بسيط في قضيته، عميق في مشاعره الإنسانية التي ما أحوجنا إليها في تلك الأيام العصيبة، فقد عكس طبيعة المجتمع السعودي برقي يفوق الواقع ربما.





