
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في زاوية معتمة من الزمن، يجلس رجل يحمل بين قسماته ألف حكاية.. يصرخ ولا يلوح بيديه، فقط ينظر، فتتحدث عيناه بكل ما لم يُقال.. كان (عماد حمدي) رمزًا للهدوء العاصف، للأبطال الذين لا يحتاجون إلى ضجيج ليُسمعوا، وللرجال الذين يختزلون الألم في نظرة، ويُخفون الانكسار خلف ابتسامة هادئة.
على الشاشة، لم يكن (عماد حمدي) مجرد ممثل، بل كان الوجه الذي يعكس ملامح الزمن، والحضور الذي يُشعرك أنك أمام رجل حقيقي، ليس من ورق، وليس من خيال، بل من لحم ودم، يُخطئ ويضعف، يحب ويخسر، تمامًا كما يفعل البشر.

حين يصبح الخطأ قاتلًا
في أحد أفلامه التي بقيت محفورة في ذاكرة السينما، (حياة أو موت – 1954)، لم يكن (عماد حمدي) بطلًا مغوارًا يركض لإنقاذ أحد، بل كان رجلًا عاديًا، طريح الفراش، ينتظر ابنته الصغيرة التي خرجت في رحلة بريئة لجلب الدواء، غير مدركة أن القدر قد خط بضع قطرات من السم في زجاجة الشفاء.
(أحمد إبراهيم)، الرجل الذي لم يكن يعلم أن خطأً صغيرًا في تركيب دواء قد يجعله يواجه الموت دون أن يدري.. كان في انتظار ابنته، بينما في مكان آخر، جلس الصيدلي يُدرك هول الكارثة، لا يعرف كيف يصل إلى الرجل لينقذه.
https://shahrayar-stars.com/2024/08/73559/
لم يكن أمامه سوى الشرطة، الذين أطلقوا نداءً عبر الإذاعة:
(المواطن أحمد إبراهيم: لا تشرب الدواء! الدواء فيه سم قاتل)!
زوجته، التي لم تكن معه، استمعت إلى النداء، ارتعشت أنفاسها، ولم تفكر إلا في شيء واحد: إنقاذه، هرعت في شوارع القاهرة، تلهث بين الأزقة، تبحث عن بيته، عن الرجل الذي كاد يموت دون أن يدري أن الحياة كانت على وشك أن تفلت من بين يديه.
لم يكن الفيلم مجرد قصة مشوقة، بل كان رسالة تحذير، صرخة في وجه الإهمال، وتجسيدًا لصراع الإنسان العادي مع أخطاء لا يد له فيها، لكنه يدفع ثمنها على أي حال.

غيبوبة الوطن
بعد سنوات، انتقل (عماد حمدي) إلى عوامة أخرى، حيث كان الوطن يغرق في الدخان والكلمات المتطايرة.
في (ثرثرة فوق النيل – 1971)، كان (أنيس زكي)، موظفًا في وزارة الصحة، لكنه غائب عن وعيه، هائمًا في ضباب الحشيش، يرى ما لا يراه الآخرون، يدرك الحقيقة التي يحاول الجميع إنكارها.
في العوامة، اجتمع ممثلون وصحفيون ونساء، يتحدثون عن الوطن والمستقبل، لكن أنيس كان يعلم أن هذه ليست إلا ثرثرة فوق النيل، أحاديث تُقال ولا تُنفذ، كلمات تتلاشى كما يتلاشى الدخان في الهواء.
كان (عماد حمدي) في هذا الدور كأنه يروي تجربته الشخصية، كأنه يلمح إلى ما كان يحدث حوله في الواقع.
السينما تغيرت، المجتمع تغير، وأصبح كل شيء مجرد كلمات بلا روح، تمامًا كثرثرة أبطال الفيلم الذين يهربون من الواقع إلى أحلام زائفة.

سقوط الرجل الطيب
في (المذنبون – 1975)، لم يكن (عماد حمدي) وكيل نيابة يبحث عن العدالة، بل كان الأستاذ (أليف البحراوي)، الناظر الرجل الطيب الذي عاش عمره بين دفاتر المدرسة، يكدح ليطعم أبناءه الكثيرين، قبل أن يجد نفسه فجأة متهمًا بجريمة قتل لم يرتكبها.
حين طرقت يد الشرطة على بابه، لم يكن يدري بعد ما الذي ينتظره، لم يكن يخشى رجال القانون، بل كان يخشى الجوع الذي قد يطرق باب أبنائه إذا حدث له مكروه.
وقف أمامهم، لم يحتج ولم يصرخ، فقط طلب منهم لحظة ليُحضر حذاءه، كأن الحذاء كان الشيء الوحيد الذي بقي له في هذه الحياة.
كانت خطواته ثقيلة، كأنها تحمل فوقها سنوات من الخذلان، وجهه مرتبك، عيناه تائهتان، وكأنهما تبحثان عن إجابة في الفراغ، حين رأته زوجته، لم تسأله عن السبب، لم تبكِ أو تصرخ، فقط أمسكت بجاكت بدلة قديم، ناولته إياه بحنان أم تدرك أن البرد قادم، ثم همست في أذنه:

(أروح فين بأولادك؟)
مشهد بسيط، لكنه من أعظم مشاهد السينما المصرية.. رجل بسيط، ينهار كل شيء من حوله، لكن أكثر ما يؤلمه ليس مصيره، بل مصير من تركهم خلفه.
حين بدأ التحقيق، لم يكن هناك شيء ضده سوى صورة التقطت له مع الممثلة القتيلة، سناء كامل، لم يكن يعرفها، فقط قابلها مرة، بحكم أنها قريبة أحد طلابه، وحين سأله الضابط عن دخوله إلى عالمها، نظر حوله وقال بصوت مكسور:
(الأولاد كبرت والحاجات زادت، وحضرتك عارف المرتب زي ما هو).. لم يكن (أليف البحراوي) مجرمًا، لكنه كان رجلاً اختنق بالحاجة، رجلًا سقط في فخ لم يكن له يد فيه، تمامًا كما سقط الكثيرون قبله.
حين وجد نفسه وسط الحفلة، تذكر أنه كان هناك ممثل شهير، تلميذ قديم له، التفت إليه وقال:
(أنتوا عارفين أنا عملت كام تلميذ عندي؟ بتاع ربع مليون!.. يعني لو حسبوني زي الكوافير، الراس بنص جنيه، كان زماني عندي 125 ألف جنيه! اللى بقى مدير، واللى بقى فنان، واللى بقى في السجن.. كلهم أكابر، حتى اللي في السجن أكابر، وأنا لسة زي ما أنا… في الدرجة الخامسة)!
ثم جاء اللقاء مع صديقه القديم (سامي الجعر)، الذي كان مدرسًا بسيطًا مثله، لكنه سافر في إعارة، وعاد بسيارة فارهة، ببدلة أنيقة، بوجه ممتلئ بالراحة.
وقف أمامه مذهولًا:
(سنة واحدة إعارة جابت لك دي؟ وأنا مش عارف أجيب جزمة)!
ضحك سامي، قال له:
(لو فتحت مخك معايا، هتجيب أحسن منها! خف شوية من هواية الفقر اللي عندك دي)..
هكذا بدأ السقوط.. لم يكن شريرًا، لكنه كان جائعًا.. لم يكن فاسدًا، لكنه كان محطمًا.

النهاية التي تشبه البدايات
في كل أدواره، كان (عماد حمدي) هو الرجل العادي، الذي لا يصيح ولا يحارب، لكنه يسقط، ببساطة، بصمت، كأنها النهاية الوحيدة الممكنة له.. وحين جاء اليوم الذي رحل فيه، لم يكن هناك صخب، لم يكن هناك ضجيج.
فقط رجل جلس في الظل، ينظر إلى الدنيا كما كان يفعل دومًا، ثم أغلق عينيه ورحل.. وربما، حين نعيد مشاهدة أفلامه، سنجد أنه لم يكن يمثل أبدًا، بل كان يروي حكاياتنا جميعًا.