
بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
كتبت المصرية القديمة بثلاث خطوط – ولا نعنى النطق للكلمات المكتوبة – وهم (الهيروغليفية، الهيراطيقية، الديموطيقية)، والنص الذي وصل إلينا عن (المسرح) الغنائي المصري القديم كتب بالخط الهيرطيقي.
ومما يقال عن وجود هذا الخط، أنه أبسط في القراءة عن الخط الهيروغليفي، وهذا راجع إلى صعوبة الهيروغليفية وصعوبة تعلمها واستخدامها في الشئون العامة، والخط الهيراطيقي، مشتق من الهيروغليفي، مع التبسيط.
وسجلت معظم الكتابات الأدبية للمصريين بالخط الهيراطيقي، ونعرف من هذا أن خط نصوص (المسرح) المصرية القديمة، كتبت بهذا الخط ، وأن هذا الخط استخدم في كتابة الأعمال الشعرية ، والغنائية .
ونعود إلى ماضينا ونتذكر أننا تعلمنا أنه كان يوجد مشاهد تمثيلية للمسرحيات المصرية القديمة، كانت تؤدى في غرفة الأسرار لبشاعة تمثيليها (كقتل أوزيريس ، وتقطيع جسده).
ولكن ظهر بمصر القديمة (المسرح) الغنائي يصور هذه الأحداث بطريقة غنائية تمثيلية (المسرحية الملحنة)، وهذا ما وصل إلينا عبر بردية لنسي آمسو (رقم 10158 في المتحف البريطاني)عنوانها هو أغاني مهرجان الزرتيتين).
وأهم ما جاء في هذه البردية، تتعلق بقتل أوزيريس على يد ست، وبعد القتل وتقطيع الجسد، يتم إعادة بناء جسد أوزيريس بواسطة إيزيس ونفتيس، وهذا يعني أن مشاهد القتل والتقطيع، تم تمثيلها من خلال مسرحية غنائية، تعتمد على خيال وذهن المشاهد في تصور وتخيل هذه الأحداث.
كما أنها تتعرض إلي الويلات التي مرت بإيزيس بعد مقتل زوجها، ولكن ما يهمنا هو ظهور عملية القتل وتقطيع الجسمان عبر كلمات تصويرية مغناة، تستطيع ممثلة (المسرح) من خلالها، التأثير على ذهن الجمهور في تخيل هذه المشاهد.

الجسد الخاص بأوزيريس
كما أن إعادة بناء الجسد الخاص بأوزيريس، يمثل غنائيا تصوريا، لكي يتخيله المشاهد، لصعوبة تقديمة على خشبة المسرح ، فقد مرت إيزيس برحلة لتجميع هذا الجسد، وما يعنينا في هذا العمل هو ظهور المسرح الغنائي المصري، ليصور أحداث الصراع بموت أوزيريس.
ولكن للأسف الشديد لم يصل إلينا النص، ولكن نستطيع استنباط هذه الطريقة التمثيلية الغنائية، ونلحظ أن الشخصيات نسائية (يمثلان شخصية إيزيس ونفتيس)، ومن الممكن جدا أن يتبادلان التمثيلي الغنائي فيما بينهم، وسوف تعتمد هذه الطريقة أولا على القص عن الصراع بين أوزير وست.
وعند الدخول في الأحداث، سوف تقوم كل فتاه بغناء تمثيلي لشخصيتها، ويعودان إلي فقرات من القص تتخلل هذه الأحداث، وفي محاول أشبه بالمغامرة، نحاول الوصول لصورة الشعر المصري القديم، حتى نتصور كيفية بناء هذا النص، ونتعرف على طريقة نسجه.
ونعود إلي سليم حسن (الأثري المصري) ليقدم لنا بردية بها شعر مصري قديم وهذا من نصوصها: (تتكون القطعة عادة من ثلاثة أسطر أو أربعة أسطر) كالأمثلة الآتية:
أنت تنزل في سفينة من خشب الصنوبر
تحرك من المقدم إلى المؤخر
وتصل إلى قصرك الجميل
فمك مفعم بالنبيذ والجعة
والخبز واللحم والفطير
وتذبح الثيران وتفتح أباريق النبيذ
وأمامك الشدو الجميل
الذي بنيته لنفسك
وهذا النص يقترب من أشعار المربع التي تمثل بها السيرة الهلالية في مصر الحديثة، مع بعض الاختلاف في نظام القافية، فيتكون شعر المربع من أربعة أسطر شعرية الأول والثالث ينتهي بقافية واحدة والثاني والرابع بقافية واحدة، مثال:
ولما عدوا التلات شهور
جم العرب هنوا ابن نايل
بجي الأمر باين ومشهور
وفرحت جميع الجبايل
ونلحظ أن الشعر المصري القديم يقدم وصفا تمثيلا يحث المستمع على تخيل الصورة السمعية، وكذلك شعر المربع المصري الحديث يقدم وصفا عن فترة حمل خضرة الشريفة، ومن معاني التمثيل الوصف، فهذه الطريقة الوصفية تجعل من ذهن المشاهد مسرح للأحداث.

الشعر المصحوب بالموسيقي
ومع نغمات الشعر المصحوبة بالموسيقي ينتقل المستمع بخياله من حدث لحدث، ومن مكان لمكان حسب مسرح الأحداث، ونلاحظ أن الشعر المصري القديم يتكون من أبيات تشبه المربعات الحديثة في الطريقة التأليفية للشعر وفق معنى من معاني التمثيل.
وهذه الطريقة التمثيلية لها تدريبات تعتمد على الطبقات الصوتية لممثل أو ممثلة (المسرح) لتصوير الحدث التمثيلي في صورة مغناة، فلكل مشهد طبقة صوتية خاصة به، يختلف عن بقية المشاهد، وهذا ما يحدث عند تمثيل المشاهد.
حيث أن المشاهد الوصفية سوف تختلف طبقاتها الصوتية التأثيرية عن المشاهد الحوارية، والعمل المصري القديم يتحدث عن دور إيزيس ونفتيس في إعادة تجميع وتشكيل جسد أوزيريس، والمسرحية الغنائية التمثيلية تتيح للممثلة أداء هذا.
هذا النص بشكل يتفق مع اللحن، مما يضفي تأثيرات سمعية متخيلة على المستمعين، وهذا النوع من (المسرح) مأسوي، ويخص المرأة، مما يتيح لمشاهد البكاء والصراخ على أوزيريس، المصحوبة بالموسيقي، أن تحدث تأثيرات سمعية متخيلة على المستمع.
وهذا مما يحسب للشاعر التمثيلي المصري القديم إذ قدم نصا يتفق مع طبيعة المرأة ، وقدمه بطريقة غنائية، تتنظم من خلاله مشاعرها البكائية وصراخها، وتصوير الألم والحزن عند المرأة، بشكل أنيق وغير متكلف، يستسيغه المستمع ويحرك ذهنه، ويتخيل الحدث.
وهذا العمل يحتاج إلي مؤلف شعري تمثيلي، يقدم نصا يلحن، والممثلات تحتاج إلى تدريب كبير لكي تؤدي هذا المشاهد بطبقاتها الصوتية، التي تثير ذهن المشاهد ليتخيل مسرح الأحداث، وكأنه مشارك في العمل.
وهنا تساؤل مهم: هل تأسس فن الأوبرا والأوبريت في مصر القديمة؟، والإجابة تحتاج إلى البحث من قبل متخصصي (المسرح) التمثيلي الغنائي، ومما سبق نلاحظ أن الشعر المصري القديم، مقارب للشعر المصري الحديث (المربع)، وطريقة استخدامها واحد، وفق مفاهيم فن التمثيل العربية.
بل هناك تشابه بين طريقة أداء الممثل الفرد (شاعر السيرة الهلالية) وبين طريقة أداء (أغاني مهرجان الزرتيتين) المعتمدة على ذهن الجمهور في تخيل الأحداث، وهذه الطريقة من طرق التمثيل العربية الأدائية المسرحية (الصعبة جدا).
وهذا معناه أنه يوجد توارث بين الشكلين، قديما وحديثا قائم على الفهم الصحيح للكلمات المصرية القديمة، من خلال الدلالات العربية الذهنية لهذه الكلمات، حيث أن الغرب يترجم اللغة المصرية القديمة وفق أحرف اللاتينية، ويحاول أن يفسرها وفق ثقافة مختلفة، خاصة أن نطق الكلمات المصرية القديمة غير معروف.
ولهذا يوجد اختلاف في معاني الكلمات من باحث لباحث، ولكن توجد آراء وتفسيرات لبعض الباحثين في كون الكلام المصري القديم، كان العربية بلهجة من لهجات العرب، ولأهمية هذا الموضوع ننصح بالرجوع إلي العالم اللغوي الليبي (على فهمي خشيم) في مؤلفة البرهان على عروبة اللغة المصرية القديمة.