بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في زوايا السينما المصرية، حيث تسطع الأضواء على النجوم الكبار ويُحتفى بالأبطال، تظل هناك شموع خافتة لكنها دائمة الوهج، تحمل عبق الإبداع وروح التفاصيل.. واحدة من هذه الشموع كان اسمها (لطفى الحكيم)، ذلك الفنان الذي لم يسع للصدارة يومًا، لكنه تسلل إلى القلوب من أبواب الصدق والبساطة.
وُلد عام 1901 ورحل عام 1982، لكنه لم يرحل عن ذاكرة عشاق السينما، فهو ذلك الوجه الريفي الذي يمثل الإنسان العادي بكل تعقيداته ومفارقاته.
(لطفي الحكيم) لم يكن من هؤلاء الذين يلهثون خلف البطولة المطلقة أو يتصدرون ملصقات الأفلام، لكنه كان أحد أعمدة الفن التي جعلت من السينما المصرية مرآة تعكس حياة المصريين.
أدواره الصغيرة كانت مفعمة بالعمق، وكأنه يثبت أن التفاصيل الهامشية يمكنها أن تكون جوهر العمل.
عبقريته في (المليونير الفقير)
من أبرز الأدوار التي أبدع فيها (لطفى الحكيم) دوره كعمدة في فيلم (المليونير الفقير) مع إسماعيل ياسين.. في هذا الفيلم، جسّد شخصية عمدة ريفي تتسم بالبساطة الممزوجة بدهاء مرح.
في أحد المشاهد الأيقونية، يظهر العمدة محاطًا بالمشتبه فيهم بسرقة قطن من أحد الحقول، ويبدو عاجزًا عن كشف السارق.
هنا يظهر جعران أفندي (إسماعيل ياسين)، موظف لدى العمدة يعتمد عليه فى تسير أعماله ولكن كان لدية مسحة من دهاء عفوى .
الحوار يبدأ بتحية فكاهية:
جعران أفندي: السلام عليكم يا عمدتنا الأفخم.
العمدة: وعليكم السلام يا داهية الدواهي.
جعران أفندي: شبيك لبيك، ملك الحداقة ما بين إيديك.
ما يلي ذلك هو مشهد مليء بالضحك والدهاء، حيث يدور (جعران) حول المشتبه بهم، يشتم رائحتهم ويتفحصهم ككلب بوليسي، ثم يتوقف فجأة عند أحدهم ليقول بذكاء:
(الحرامي واضح زي الشمس يا عمدة، على دقنه حتة قطن من اللي سرقه)!
يتحسس السارق ذقنه فيفضح نفسه، ليأمر العمدة بالقبض عليه.
العبقرية الحقيقية تتجلى في الحوار بين العمدة وجعران:
العمدة: إنت شوفت إزاي فتلة القطن وأنا ما شوفتهاش؟
جعران أفندي: والله لا على دقنه قطن ولا شاش، أنا عملتها كده بالتهويش علشان الحرامي يفضح نفسه.
العمدة: يا سلام على عقلك النور!
ختام المشهد يأتي بضحكة من القلب حين يقول العمدة:
يا سلام على مخك البرلنت، يا بحر العلم، يا ترعة المفهومية، يا فيلسوف الحمير!
لطفى الحكيم في (الفتوة)
في فيلم (الفتوة) مع فريد شوقي، قدم (لطفى الحكيم) دور (الغازولي)، تاجر الفاكهة الماكر وشريك هريدي.. هنا أظهر وجهًا آخر من موهبته، حيث مزج الطمع بالذكاء الشعبي، وأضاف لمسة كوميدية تعكس الحياة اليومية بأدق تفاصيلها.
شخصية (الغازولي)، رغم ما تحمله من طمع وانتهازية، لم تخلُ من بُعد إنساني يجعلها قريبة من المشاهد.. هذا التنوع في أداء لطفي الحكيم بين الكوميديا والدراما الخفيفة كان أحد أبرز سماته.
لم يكن يسعى إلى رسم ابتسامة فحسب، بل كان يسعى لتقديم شخصيات حية، مليئة بالطبقات الإنسانية.
مبدع في الظل
كان (لطفي الحكيم) ممثلاً ينتمي إلى مدرسة الأداء الصادق، لا يطغى عليه استعراض ولا تغريه الأضواء. في كل دور صغير أو كبير أدّاه، كان يترك بصمة تشبه عبق الحقول الريفية التي كانت مصدر إلهامه.
كأنما كان يحمل على عاتقه مهمة توثيق روح المصري البسيط بفرحه وهمومه، بدهائه وسذاجته، بطموحه وصراعة اليومي.
لم يكن مجرد ممثل عابر بل كان (الممثل الكامن)، ذلك الذي يجعل المشاهد يشعر وكأن (لطفي الحكيم) هو جاره أو قريبه الذي يعرفه حق المعرفة، حتى في أصغر أدواره، كان يحتل المشهد ببساطة ودون تكلف.
على مدار حياته الفنية، شارك (لطفي الحكيم) في العديد من الأفلام التي أثرت السينما المصرية، منها:
(الفتوة – 1957): حيث أبدع في دور الغازولي، شريك البطل هريدي.
(المليونير الفقير): الذي جسّد فيه العمدة ببراعة كوميدية لا تُنسى.
(الأستاذة فاطمة): حيث قدم دورًا بسيطًا لكنه مليء بالدفء الإنساني.
(بين الأطلال: حيث أضاف لمسة إنسانية للدراما الرومانسية.
(اللص والكلاب): بدور يظهر تفاصيل الحياة الشعبية في مواجهة الطمع والجريمة.
هذه الأفلام لم تكن مجرد عناوين، بل كانت لوحات تعكس عبقرية أداء ممثل يعرف كيف ينسج من التفاصيل الصغيرة أدوارًا عظيمة.
إرث لم يُحتفَ به
رغم عبقريته الفنية، لم ينل (لطفي الحكيم) حقه من الدراسة أو التقدير الإعلامي، ربما لأن السينما المصرية كثيرًا ما تحتفي بالبطولة المطلقة وتنسى (الجنود المجهولين) الذين يدعمون هذه البطولة.
لكن الفنانين الكبار يعرفون جيدًا أن النجاح لا يكتمل دون أعمدة قوية، وكان (لطفي الحكيم) أحد هذه الأعمدة.
في زمن يفتقر إلى البساطة الصادقة، تظل أدوار (لطفى الحكيم) مرآةً صافية، تعكس جمال الحياة اليومية بحلوها ومرها.
سيظل اسمه مرتبطًا بتلك اللحظات السينمائية التي تشبه النسمات الريفية، تطرق على وجدان المشاهد بلا ضجيج لكنها تبقى عالقة في الذاكرة.
العمدة الذي سكن القلوب
(لطفي الحكيم) لم يكن مجرد ممثل كوميدي أو درامي، بل كان وجهًا يحمل ملامح مصر كلها، فلم تكن أدواره مجرد شخصيات مكتوبة على الورق، بل كانت حياة نابضة.
في كل مشهد أداه، كان يترك للمشاهد رسالة خفية عن البساطة والذكاء الشعبي والإنسانية التي لا تزول.
سيبقى (لطفى الحكيم) جزءًا من ذاكرة السينما المصرية، وشاهدًا على عصر كان الإبداع فيه حقيقيًا، نابعًا من القلوب ليصل إلى القلوب. عبارته الشهيرة (يا سلام على مخك البرلنت، يا بحر العلم، يا ترعة المفهومية!).. ستظل شهادة حية على عبقرية هذا الفنان الذي أحب الناس وأحبوه.