بقلم الكاتب الصحفي: رسمي فتح الله
في عالمٍ يعج بالوجوه المتكررة، وُلد فنانٌ نحيل الجسد، عظيم الروح، اختار القدر أن يسميه (الضيف أحمد) وكأنما كان يعلم أن حضوره بيننا لن يدوم طويلًا.
(الضيف أحمد)، ذلك الفيلسوف الذي صاغ الضحك في قالبٍ فكري عميق، لم يكن مجرد فنانٍ عابر، بل كان رسالة إنسانية نابضة بالحياة، مضت سريعًا لتترك أثرًا لا تمحوه الأيام.
في 12 ديسمبر 1936، شهدت قرية تماي الأمديد بمحافظة الدقهلية ميلاد عقلٍ شغوف بالحياة، سعى منذ صغره ليخرج من محدودية القرية إلى رحابة الفكر.
في كلية الآداب بجامعة القاهرة، اختار (الضيف أحمد) قسم الفلسفة وعلم النفس، ليغوص في أعماق النفس البشرية، مستلهمًا منها رؤيته الفنية.
في أروقة المسرح الجامعي، انبثقت شرارة الإبداع، تلك الشرارة التي أشعلت مسيرة قصيرة لكنها مبهرة.
لم يكن (الضيف أحمد) مجرد ممثل، بل كان مفكرًا ارتدى عباءة الكوميديا ليتحدث عن الإنسان وأفكاره وأحلامه.
ثلاثي أضواء المسرح
حين اجتمع (الضيف أحمد) مع سمير غانم وجورج سيدهم، لم يكن الأمر مجرد شراكة فنية، بل كان لقاءً بين ثلاثة أبعادٍ للكوميديا المصرية.
من خلال فرقة (ثلاثي أضواء المسرح)، أعادوا تشكيل الضحك ليصبح أداة للتأمل والتساؤل.
في أعمال مثل (طبيخ الملائكة، إضراب الشحاتين، الرجل اللي جوز مراته)، التي أخرجها (الضيف أحمد) بنفسه، لم يكن الضحك هدفًا نهائيًا، بل كان جسرًا يعبر بك إلى عوالم من التفكير والدهشة.
بأكثر من 40 عملًا سينمائيًا، صنع (الضيف أحمد) هويته الخاصة كفنانٍ لا يكتفي بتمثيل الدور، بل يغوص في أعماقه ليمنحه بعدًا جديدًا.
في أفلامٍ مثل (مراتي مدير عام، 30 يوم في السجن)، استطاع أن يمزج بين الكوميديا والإنسانية، ليخلق أدوارًا تتجاوز حدود الترفيه إلى مساحات الفكر والإحساس، فلم يكن الضيف مجرد ممثل؛ كان كاتبًا ومُلحنًا، يبدع في كل تفصيلة، وكأنه يكتب رسالة إلى الزمن.
مشهد فلسفي لا يُنسى
من أكثر المشاهد التي تعكس عبقرية (الضيف أحمد) وقدرته على المزج بين الفلسفة والكوميديا، ذلك المشهد الذي جمعه بالفنان رشدي أباظة في فيلم (عروس النيل).
بعد أن أُدخل (رشدي) مستشفى المجانين لاعتقادهم أنه يحب (هميس)، التي لم تكن سوى وهم في خياله، جمعه لقاءٌ مع (الضيف أحمد) وراء نافذة شبيهة بشباك السجن.
في المشهد، يمد الضيف عصًا صغيرة من خلال فتحات الشباك، كأنها مصافحة رمزية، ويبدأ بينهما حوار فلسفي عبثي:
الضيف: أنا ليه.. أنا إزاي.. أنا إمتى؟
رشدي: إمتى؟
الضيف: آه… حمد الله على السلامة.
رشدي: الله يسلمك.
الضيف: انت جيت إمتى؟
رشدي: النهاردة.ا
الضيف: وقاعد كتير؟
رشدي: والله مش عارف.
الضيف: هما برده اللي جابوك؟
رشدي: هما مين؟
الضيف: اللي جابوني.
رشدي: هما مين اللي جابوك؟
الضيف: رواد الفضاء.. أصل أنا جيت الفضاء هنا من غير سفينة.
رشدي: من غير سفينة؟
الضيف: آه، من غير سفينة.. شوف يا أسطى، أنا جيت ليه بسفينة وأنا مش عاوز، وسيادتك سألتني: هتقعد هنا كتير؟
رشدي: أيوا.
الضيف: سلام عليكم.
هذا الحوار لم يكن مجرد دعابة، بل كان انعكاسًا لفلسفة (الضيف أحمد) التي ترى في العبث وسيلة لفهم الواقع من زاوية مختلفة.
ضحكة بعُمق الفلسفة
في أحد اللقاءات التليفزيونية، طرح الكاتب الكبير (ثروت أباظة) على (الضيف أحمد) سؤالًا عن تأثير دراسته للفلسفة على أدائه الفني.
فجاءت إجابته عفوية وعميقة، قائلًا: (الكوميديا ليست مجرد كلمات تُلقى لإضحاك الناس، بل هي فنٌ دقيق يُوازن بين الفكاهة والتفكير..الجمهور لا يضحك عبثًا؛ بل يفكر أولًا، ثم ينفجر بالضحك).
بهذه الكلمات البسيطة والعميقة، كشف (الضيف أحمد) عن فلسفته الخاصة في الفن، تلك التي ترى الكوميديا أكثر من مجرد أداة للترفيه، بل وسيلة لتحرير العقل من قوالبه المعتادة، ودعوة للتأمل في جوهر الحياة وما وراء الظاهر.
عبثية المسرح.. عبقرية التغيير
في مسرحية (حدث في عزبة الورد)، كشف الضيف أحمد عن عبقريته الحقيقية، حيث تناول بأسلوب ساخر فكرة حفظ الجثث بتقنيات علمية حديثة وإعادتها للحياة وقت الحاجة، محولًا العلم الجاف إلى مادة للضحك والتفكير.
كان المسرح في عينيه أكثر من خشبة وأضواء؛ كان ساحةً للتجريب، مختبرًا للأفكار، وأداة لتغيير الواقع بلمسةٍ من السخرية.
رحيل مبكر.. وبقاء خالد
في 6 أبريل 1970، أسدل الستار على حياة (الضيف أحمد)، لكنه لم يُسدل على إرثه، ورغم وفاته عن عمر 34 عامًا، ترك وراءه فنًا خالدًا.. لم تكن حياته القصيرة إلا انعكاسًا لحقيقة عبوره كضيف في عالمنا، حاملًا رسالة ضحكٍ وفكر.
رحل الضيف أحمد، لكن أفكاره وابتسامته تبقى بيننا.. حين نسمع قهقهة في فيلم قديم، أو نتأمل مشهدًا مثل لقائه مع (رشدي أباظة) في مستشفى المجانين، نتذكر أن الفن العظيم لا يحتاج لعمرٍ طويل، بل لروحٍ ترى العالم بطريقة مختلفة.
هكذا كان (الضيف أحمد): فيلسوفًا استثنائيًا، ضحكته تسبقها حكمة، ورحيله يترك فراغًا لا يملأه أحد.