رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: من (طرة).. عنبر اليهود !

في معتقل القلعة السياسي كنا في وقت معين يخرجوننا من الزنازين إلى فسحه الشمس

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

في معتقل (طرة) السياسي.. كنت يائسا تماما من الخروج من هذه الدائرة البشعة التي رمى بى الشعر الى أتونها.. وحدي جلست تهاجم رأسى  أشباح المرعبة  ستنكل بى الفترة القادمة بين اسواره العالية  التي تنشع رمادية و صلفا.. قبلها.

وفي الفترة التي قضيتها في معتقل القلعة السياسي كنت  داخل الزنزانة الانفرادية أقتل الوقت  بمراقبة الذباب المصاب بهوس جنسي.. استمع لطنينه يحط و يطير كموسيقى  رغم بشاعتها فالصمت المطبق مع لهيب الصيف أكثر بشاعة.

كان عثورى على مزق  من جريدة تعلن فيها الحاجه فلانة المقيمة في كفر البطيخ عن ضياع ختمها  حبلا سريا يصلنى بالحياة في الخارج.. يجعلنى أفكر في ملامح الحاجة وأولادها، وكيف حصلت على هذا الخاتم و كيف ضاع و من سيجده.

وهل سيعيده إليها وإن لم يعيده ماذا سيفعل به.. هل سيبيع به أرضها.. هل لها أرض فعلا؟.. آلاف من الأسئلة والأخيلة تتوالد لتحيطنى بصوبة من الحياة تحفظنى من أظافر الموت المتربص  ..

في معتقل القلعة السياسي كنا في وقت معين يخرجوننا من الزنازين إلى فسحه الشمس.. الزنازين تفتح على آخرها للتهوية لإخراج الروائح المتكتلة وجحافل الحشرات  بينما نحن نتجول تحت أشعة الشمس..

ننفذ بالطبع الأوامر المشددة  بألا نتكلم مع بعضنا البعض أثناء السياحة.. وبينما  نسير  كالعادة في اتجاهات متعاكسه.. ابتسم في وجهى  شاب صغير دون سابق معرفة .. عندما تقابلنا مرة أخرى.

قال لي: إزيك.. لم تتح اللحظة الضيقة أن أرد عليه..بعدها و بصوت خفيض قال وهو يمر إلى جواري: ولا يهمك الثوره جاية.. وفى اليوم التالي وهو يتلفت قال لي: علي فكرة إنت مش هاتقعد هنا في القلعه كتير.. يومين تلاتة وهايودوك معتقل (طرة) السياسي..

هل سأقوم بتكسير الحجارة هناك؟

هل سأقوم بتكسير الحجارة؟

اجتاحنى القلق لاسم (طرة)، سألته وأصوات المعاول تدق جنبات رأسى.. هل سأقوم بتكسير الحجارة هناك؟.. ضحك ضحكة طويله بصوت مرتفع التفت لها السجان ليشك بأننا نتبادل الحديث.. وحينما أدار رأسه الميري همس: الشاب (طرة) مفيش فيها تكسير حجارة.. إنت معتقل سياسي.. دا أنا هاطلع دين أبوهم.

التفت السجان مرة أخرى وقد أغاظته  الهمهمة ليسارع بجره قبل ان تنتهي فسحة الشمس.. بعد دقائق عاد بوجهه الغاضب يجرني أنا الآخر..

كنت أشعر أنى سأقضى بقية حياتى هنا.. بين أسوار (طرة).. طلبت من الإخوان  بعض الكتب الدينية.. كنت أقرأ يوميا في هذه الكتب لمده ساعة على الأقل.. أنتظر صلاة المغرب فاستمتع بما يقوله (الشيخ محمد الغزالي) العظيم فيريحنى نفسيا بعمق حديثه وفيض إيمانه.

كانت خطبته ممتدة من بعد صلاة المغرب ليكملها بعد صلاة العشاء.. كنا جميعا نستمتع بهذه الخطبة عدا (المكفراتية) ذوى اللحى اللذين كانوا يتعمدون السير أمامنا ساخرين بالضحكات، والقول مما يقوله الشيخ الغزالي.. ومن عقولنا وقلوبنا التي تنصت له ..

بعد العشاء.. كنت أنا الوحيد الذي يرافق (الشيخ الغزالي) إلى عنبره الذي يقيم فيه.. كان قد  اختار لنفسه البرش الأخير في نهاية العنبر.. يجلس وينام عليه.. يقضي جل وقته في القراءة و الكتابة..

كنت أجلس معه كثيرا  فيحدثني عن أفكاره وتمنياته وآلامه.. كنت أشاهد دموعه وهو يحكي لي عن شقيقته الحاجه زينب الغزالي.. وما تعرضت له من اعتداءات وتنكيل  في سجنها.. وعن  الكلاب التي يطلقونها عليها تنهش جسدها.. وهم ينهالون عليها بشتائم وأوصاف  أكثر بشاعة من الأنياب المسعورة ..

 في رأسى تطوف شائكة عبارة (شمس بدران) متوعدا بأنى لن أغادر هذه الأسوار قبل إزالة أثار العدوان الإسرائيلي.. كنت أرى أن مصر لن تزيل آثار العدوان إلى الأبد.. 

 لاحظت أن هناك عنابر كثيرة في (طرة) لا تفتح أبوابها لأي شخص غريب عنها.. فمثلا عنابر اليهود.. لاتفتح نهائيا إلا لكل من هو يهودي.. يجلسون معا للتسامر ويلعبون الكوتشينه.. لديهم أكثر من تلفزيون.. بين أيديهم وتحت فرشهم مئات المجلات الجنسية ..

سعد هجرس

الصحفي (سعد هجرس)

أيضا عنبر الشيوعيين.. من النادر أن يخرج منه أحد باستثناء المثال (سعد هجرس).. والصحفي (سعد هجرس).. والأستاذ (صلاح عيسى).. الذي كان في بعض الأوقات يجلس خارج عنبرهم مستندا إلى الباب الرئيسي لعنبرنا من الداخل..

ومعه أوراقه وأقلامه وعلبة سجائره يرافقه الطبق الذي يقسم عليه كل سيجارة إلي 3 قطع.. أكثر من 30 قطعة سيجارة يقوم بتدخينها طول الليل، وهو يكتب السيرة العرابية..

(المكفراتية) لا يغادرون مكامنهم إلا نادرا.. يخرجون ليلا لمراقبتنا من بعد ونحن نشاهد التلفزيون الذى استعرناه من عنبر اليهود.. حينما تعرض لقطة لاتعجبهم يقومون  بمهاجمتنا  وإغلاق التلفزيون أثناء فرجتنا في تحد سافر تقوم على أثره  معركة بيننا.

وبينهم يتسلل علي أثرها أحد اليهود ليغلق الصندوق الخشبي على التليفزيون وهو يحمله عائدا به الى عنبره ..

بمناسبه اليهود كان من بينهم فني طائرات.. جميل الوجه.. رقيق المشاعر.. وجهه يحمل ابتسامة دائمة.. كان يخرج هذا الفني إلى حوش المعتقل يتدلى من يده جردلا به كميه من كسر البيض.. وبعضا من اللحوم التي كنت اسميها كاوتشوك.. و كمية من الخبز الأفرنجي الذي يأتي لليهود في زيارتهم..

نتابعه في كل مرة وهو يقف في مكانه المحدد.. حيث تتوافد إليه  مئات من القطط السيامي التي تملأ جنبات المعتقل لتقف صفا واحدا، فيناول القطة الأولى وجبتها وتعود إلى نهاية الصف، وهى تتقدم مرة أخرى حتى تحصل على وجبة ثانية .

نجوى سالم

شقيق الفنانة (نجوى سالم)

لاحظت معتقلا شابا ينال معاملة خاصه من الإدارة، خاصة كثرة الزيارات له.. سألت عنه.. اتضح لي أنه شقيق للفنانة (نجوى سالم) التي كانت تحضر لرؤيته والاطمئنان عليه متعمدة وسط اللقاء أن تطلق ضحكتها الأنثوية المشهورة فترسل في أعماقنا  بعضا من عبق الأنوثة..

 كانت (نجوى) تغادرالمعتقل بعد الزيارة في الوقت الذي يترائى لها دون أن تحدها الإدارة بوقت معين.. و (نجوى سالم) يهودية الديانة وقد  أسلمت فيما بعد.. ولدت بالقاهرة لوالدين حاصلان على الجنسية المصرية لأب لبناني وأم إسبانية يهودية الأصل..

في سنواتها الأخيرة أصيبت بمرض نفسي حيث (هيئ لها أن هناك من يسعى لاغتيالها بسبب كونها يهودية الأصل).. رغم كونها قد أعلنت إسلامها.. وكانت منذ إسلامها تزكي وتصلي وتصوم وتحمل المصحف في حقيبة يدها في أي مكان تذهب إليه وعرفت (نجوى سالم) بشهامتها تجاه زملائها في الفن..

فهي الفنانة الوحيدة التي لازمت الفنان (عبد الفتاح القصري) في محنة مرضه وظلّت بجانبه حتى رحيله.. وكانت قد حصلت على شقة من محافظ القاهرة ليقيم فيها (القصري) بعد أن انهار المنزل الذي كان يسكن فيه..

وتمكنت من الحصول على جهاز تليفزيون للقصري ليرفه عنه أثناء المرض من (صلاح عامر) رئيس مؤسسة السينما والمسرح .

في الفترة الأخيره لاحظت أن هناك دفعة كبيرة جدا من اليهود تغادر (طرة).. سألت عن السبب..علمت أن جمال عبد الناصر عرض عليهم التنازل عن جنسيتهم المصرية و عن كل ممتلكاتهم على أن يغادروا معتقل طره السياسي متجهين مباشرة إلى المطار حيث تنتظرهم  الطائرة المتجهة إلى باريس.. البعض وافق!..

وعلمت بعد ذلك أن بعض من وافق إنضموا إلى صفوف الجيش الإسرائيلي، حيث تم أسر بعضهم مرة أخرى  في معركة العبور.. أما البقية فقد رفضوا مغادرة مصر تماما وأبلغوا المسؤولين أنهم تربوا في مصر وانهم يحبون مصر أكثر من عبد الناصر.. وأنهم في غاية الحزن بسبب النكسه  التي أصيبت بها مصر.. وآثروا الاستمرار في المعتقل عن مغادرة مصر.

و

أمي (عطيات جمعه الشافعي)

أنا كل ما افتكرك.. أحس برعشة..سارية في الدما ..والأورده ..

واقري عليكي الٱيه ..تغسل روحي.. وتنسيني أيام الغلا .

ولا قمت ليكي بأي واجب.. لاجل أحس يا أمي لحظه بالرضا ..

بس اللي بيريحني..إ ني بشوف سيادتك.. واقفة جنبي في الصلا.

أنا شعري جنبك هش.. كوم من قش.. فاقد في حروفه وملمحه ..

عصفور بيهرب بعد موتك.. لما فاتك..من جميع الأغربة.

أصبح في إيد الكل.. بعدك يا حبيبة الكل.. نار الأسلحو..

وجاكتتي المبلولة بدموعي الحزينة.. عليها كوم الأتربه .

السرقة يا أمي الحبيبة.. تجارة.. صبحت مربحة..

معظم ولادك ماتوا.. سيبتوني جميعا.. روح جريح متغربة.

زلزال رهيب في السكة؟. هايخلي الجموع.. ويا الدموع متشردة ..

ولا بد توصل لينا.. في ميعادها.. نيران المولي ويا الزلزلة

من كتاب (مدد.. مدد)

سيرة ذاتية لبلد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.