بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
بعد عام من الإقامة الجبرية قامت السلطات الإسرائيلية بالإفراج عن الممثلة الفلسطينية (ميساء عبد الهادي)، بدعوى التحريض على الإرهاب، وذلك على خلفية تضامنها مع أهل غزة الرازحين تحت العدوان الإسرائيلي، الذي خلّف حتى الآن ما يقرب من 44 ألف شهيد، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
من جانبها سلطت وسائل الإعلام الإسرائيلية، طيلة الأيام القليلة الماضية الضوء على قرار محكمة الصلح في الناصرة الإفراج عن الممثلة الفلسطينية، بعدما وُضعت قيد الإقامة الجبرية قبل عام، تحديداً منذ 13 أكتوبر 2023، بتهم (التحريض على الإرهاب)، و(دعم منظمة إرهابية).
في إشارة إلى حركة (حماس)، وتعتبر (الناصرة) التي تنتمي لها (ميساء عبد الهادي)، النقطة المحورية للعرب في إسرائيل، والتي تتألف بشكل رئيسي من مواطنين فلسطينيين بقوا بعد حرب عام 1948، ويعرفون أنفسهم على أنهم فلسطينيون الهواية.
بحسب ما نقلته صحيفة (هآرتس) مُنعت (ميساء عبد الهادي) خلال عام كامل من الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، سواء عبر منصّات (فيسبوك) و(أنستجرام) أو منصة (إكس)، أو تطبيق (واتس أب)، أو (تيك توك) وغيرها، موضحة أن المحكمة قضت بأن (ميساء عبد الهادي) لا تزال ممنوعة من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن يمكنها استخدام (واتس آب).
إبان الواقعة زعمت شرطة الاحتلال، أن (ميساء عبد الهادي) الممثلة والمؤثرة على شبكات التواصل الاجتماعي من سكان مدينة الناصرة، جاء اعتقالها على خلفية الاشتباه في ترويجها لعبارات خطاب الكراهية، بعدما نشرت صورًا (ليافا أدار)، 85 عامًا.
وهي محتجزة كرهينة من قبل حركة (حماس) مع رموز تعبيرية ضاحكة وصورة أخرى لقوات (حماس) تخترق الجدار الأمني الإسرائيلي مع تعليق باللغة الإنجليزية (دعونا نذهب على طريقة برلين)، في إشارة واضحة إلى هدم جدار برلين عام 1989.
وفى أعقاب الاعتقال تعرضت منشوراتها على مواقع التواصل الاجتماعي لانتقادات شديدة من بين المنتقدين شريطها في بطولة فيلم (ميت مؤقتا)، (عوفر ششتر)، الذي كتب: (أنا خجل منك، يجب أن تخجلين من نفسك، أنتم تعيشون في الناصرة، تمثلون في برامجنا التلفزيونية وأفلامنا، ثم تطعنوننا في الظهر).
امرأة حرة وبعزيمة كبيرة
فور إطلاق سراحها، أكدت محاميتها (عبير بكر)، أن (أمامنا معركة قانونية بالطبع، ولكن على الأقل ستتمكن (ميساء عبد الهادي) من خوضها امرأة حرة وبعزيمة كبيرة، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته، لفتة إلى أن (عبد الهادي) عانت مهنياً ومالياً بسبب اعتقالها.
بعد أن خسرت فرص عمل عدة، مؤكدة أن مشاريع التصوير السينمائي في الخارج كان لا بد من إلغائها، لأنها لم تتمكن من السفر، كما أعرب عن أملها ألا تواجه (ميساء عبد الهادي) أعمال انتقام جديدة، مذكرة بأن موكلتها اعتقلت في البداية.
ولكن أُطلق سراحها دون شروط، ومع ذلك، (بعد أسبوعين قرّر المتنمرون على وسائل التواصل الاجتماعي إصدار أمر للشرطة باحتجازها مرة أخرى، وهذا ما حدث).
وأكدت محامية الفنانة أن قضيتها (مثال كلاسيكي على الطريقة التي أصبحت بها سلطات إنفاذ القانون مطيعة لمتنمري وسائل التواصل الاجتماعي)، مضيفة إن أفراداً عدة دعوا إلى قتل (ميساء عبد الهادي)، وما زالوا يتجوّلون بحرية (على ظهر حريتها).
بالطبع حالة (ميساء عبد الهادي) ليست الوحيدة فى أوساط عرب 48، فمع بداية العدوان اعتقلت السلطات الإسرائيلية العشرات من المواطنين العرب ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية، بسبب التعبير عن تضامنهم مع غزة، وانتقاد الفظائع التي يرتكبها جيش الاحتلال في القطاع، واستهدفوا بالتهديدات بالقتل والاعتقالات والرقابة الذاتية. أما الفنانون الفلسطينيون منهم، فقد تحوّلوا إلى هدف لخنق حرية التعبير، وهجمات الدولة الصهيونية ومواطنيها اليهود الإسرائيليين في شكل تحريض، وتمييز، وملاحقات قانونية، وتهديدات جسدية، لمجرد التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أو المعارضة السلمية للهجوم الوحشي الإسرائيلي.
من هى (ميساء عبد الهادي)
ممثلة سينمائية فلسطينية تحمل الجنسية الإسرائيلية، شاركت في عروض تلفزيون ومسرحية من مدينة الناصرة، وهي من مواليد عام 1985 خريجة معهد (فينجيت هيدروترابيا)، ومن الأعمال السينمائية التي قامت بالمشاركة فيها: (الزمن المتبقي) للمخرج أيليا سليمان، و(رجل من دون هاتف) للمخرج (سامح زعبي)، و(ميرال) للمخرج (جوليان شنابل).
وتلعب الدور الرئيسي بفيلم (حبيبي راسك خربان) للمخرجة اللبنانية (سوزان يوسف)، و(المحطة المركزية) لعامي لفنا، وفيلمان قصيران بعنوان (تاكسي) و(الصندوق)، وكليب للمغني (إلياس جوليانس).
ومن أبرز الأفلام التي شاركت فيها فيلم (غزة مونامور)، وكان عرضه الأول عالميًا في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي العام الماضي، وانطلق بعد ذلك في جولة من العروض في المهرجانات الدولية، وكان مرشح فلسطين الرسمي للمنافسة على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
وحصد الفيلم جائزة أفضل فيلم عربي بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، مناصفة مع فيلم (نحن من هناك) خلال الدورة 42 للمهرجان، أما أشهر الأفلام التي شاركت فيها، فمنها ما عرض على منصة (نتفلكس) العالمية،the angel الذي لعبت فيه شخصية (منى مروان) في المسلسل الذي يحكي قصة السياسي المصري (أشرف مروان) من وجهة نظر إسرائيلية، وقلب بغداد، والحارة، والمختارون، وصالون هدى.
لا أرض أخرى
بطبيعة الحال ممارسة العنف والملاحقة من جانب السلطات الإسرائيلية، لا تنحصر فى العرب وحدهم بل تطال كذلك بذات القدر إسرائيليين يهود يحملون الجنسية الإسرائيلية يتعاطفون مع القضية الفلسطينية، لعل أشهرهم الآن المخرج الإسرائيلي اليساري ( يوفال أبراهام)، أحد المشاركين في إخراج فيلم (لا أرض أخرى).
وهو فيلم وثائقي فلسطيني من إنتاج مشترك بين فلسطين والنرويج، وإخراج الرباعي (باسل عدرا)، و(حمدان بلال)، و(يوفال إبراهيم)، و(راحيل تسور)، وجميعهم ناشطون فلسطينيون وإسرائيليون داعمون للقضية الفلسطينية، أقدموا على صنع الفيلم في محاولةٍ منهم لتقديم فعلٍ مقاوم في طريق البحث عن العدالة أثناء ما تعانيه فلسطين من اعتداءات بشعة من جانب إسرائيل.
تم اختيار الفيلم ليعرض أول مرة في قسم البانوراما في الدورة 74 من مهرجان برلين السينمائي الدولي في 12 فبراير 2024، وحصل في حينه على جائزتين، ويتحدث في مدة 95 دقيقة عن ممارسات التهجير التي يعاني منها المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية من الاحتلال الإسرائيلي.
ويناضل المشاركون في صنع الفيلم وعلى رأسهم المخرج (باسل العدرا) منذ طفولته ضد التهجير القسري الذي يمارسه الاحتلال العسكري الإسرائيلي لأهله في قرية (مسافر يطا) وهى منطقة تضم 19 قرية فلسطينية تقع داخل حدود بلدية (يطا) في الضفة الغربية.
حيث أعلنت إسرائيل المنطقة للتدريبات العسكرية الخاصة بها، فحرمت بذلك العائلات الفلسطينية من حقهم في العيش على أرضهم التي ولدوا فيها تاركينهم بلا أي أرض أخرى ليعيشوا عليها.
عنف وبطش المستوطنين
كما يسجل الفيلم ببطليه الرئيسيين الكاميرا وهاتف (باسل) التدمير المتواصل للقرية حيث يدمر الجيش الإسرائيلي المنازل ويُخليها من سكانها، ويقطع أنابيب المياه، ويسلب مولدات الكهرباء، ويسوي المدرسة التي قام الأهالي بتشييدها بالأرض، ويسجل هروب المدنيين أثناء الاعتداء عليهم، والجرافات المدمرة للمكان، والجنود الذين يعتدون على المصورين، وهروب المصورين بعدها.
مع أصوات الصراخ والتدافع بين الأهل المعتدى عليهم والمعتدين، ويوثق عنف وبطش المستوطنين على الأهالي وترويعهم، كما يصور محاولات الأهالي في إعادة بناء منازلهم ليلاً.
الفيلم الذي ربما جاء معبرا عما يحدث في فلسطين بشكل آني، لكنه في الحقيقة توثيق طويل الأمد لما يعيشه أهل الضفة الغربية، مما يمنحه قوة توثيقية تتخطى المجادلات السياسية، حصل بعد عرضه بفترة قصيرة على العديد من الجوائز، منها جائزة جمهور البانوراما عن فئة أفضل فيلم وثائقي.
وهى جائزة يحصل عليها الفيلم حسب تصويت الجمهور من مهرجان برلين الدولي للأفلام، في فبراير 2024، وجائزة بيرلينالي عن فئة أفضل فيلم وثائقي من مهرجان برلين السينمائي الدولي، في فبراير 2024، وجائزة الجمهور من مهرجان كوبنهاجن الدولي للأفلام الوثائقية، في مارس 2024.
وجائزة الجمهور من مهرجان رؤى الواقع الدولي للأفلام الوثائقية في سويسرا، في أبريل 2024، وجائزتين جراند بيكس، والجمهور من مهرجان MDAG في بولندا، في مايو 2024.
كما أثار الفيلم في حينه جدلاً واسعاً في ألمانيا بعد عرضه في مهرجان برلين وحصوله على جائزتين منه، خاصًة بعد تصريح صناع العمل وإعلانهم تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وما يحصل في غزة، بعدما طلب (باسل العدرا) من الحكومة الألمانية التوقف عن تصدير السلاح لإسرائيل وطالب بوقف إطلاق النار.
كما وقال (يوفال إبراهيم) أنه في هذا المهرجان قد يتساوى مع (باسل) لكنه حينما يعود لفلسطين (فباسل) لا يملك نفس الامتيازات التي يتمتع بها هو، مما أثار غضباً واسعاً فاعتبر الكثيرون خطاباتهم بأنها “معادية للسامية” حسب قولهم، فمن غير المألوف أن تقال مثل هذه الخطابات في بلد كألمانيا، أشد الداعمين لإسرائيل.
تهديدات بالقتل في إسرائيل
أكثر من مرة كشف المخرج الإسرائيلي (يوفال أبراهام) عن تلقيه تهديدات بالقتل في إسرائيل بعد تنامى خطابه الداعم للفلسطينيين، ومؤكداً على أنه لن يتراجع عن هذا الخطاب، قائلاً: (إنه يقف وراء كل كلمة قالها)، وتابع: (أنا أعيش في ظل نظام مدني و(باسل) في نظام عسكري، نقيم على بعد 30 دقيقة فقط من بعضنا البعض.
أتمتع بحق التصويت، أما هو فلا، ويُسمح لي بالتحرك بحرية في هذا البلد، في وقت إن (باسل)، مثل ملايين الفلسطينيين، مقيد في الضفة الغربية المحتلة، يجب أن ينتهي عدم المساواة هذا بيننا.
اللافت كذلك أن الاهتمام بالفيلم إنه مع عرضه في دور السينما في المملكة المتحدة وصفت صحيفة (ذا جارديان) البريطانية، (إذا كان هناك شيء يمكن وصفه بأنه ضروري للمشاهدة، فهو هذا السرد الصارخ والصارم للحياة على الأرض في منطقة متنازع عليها (محتلة) في الضفة الغربية)، كما أوصت به صحيفة (فاينانشال تايمز) وقيّمته بخمس نجوم.
الديموقراطية الزائفة
الحرب الإسرائيلية على غزة التي تجاوزت ثلاثة عشر شهراً وما رافقها من ممارسات عدوانية في الضفة الغربية جاءت لتكشف معها عن عدم وجود أي صوت معارض إسرائيلي مؤثر ينتصر لحقوق الشعب الفلسطيني، ويطالب بوقف المجازر الدموية وجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب ضد المدنيين العزل في قطاع غزة.
وهذا التدمير الهائل لكل مقومات الحياة هناك، باستثناء عدد من نشطاء منظمات المجتمع المدني الحقوقية واليسارية الذين فضحوا هذه الجرائم وعملوا ضدها ومنهم المخرج (يوفال إبراهام).
كما أثبتت الحرب كذلك كيف اختفى الضمير وكل القيم التي كانوا جميعاً يتغنون بها باعتبار أن إسرائيل دولة ديمقراطية وتقوم على احترام الحقوق والمساواة، وبالطبع، التجربة أثبتت أن هذه مجرد ادعاءات كاذبة لارصيد لها وأن السياسة الإسرائيلية الفعلية هي عنصرية بامتياز.
والأسوأ من وجهة نظر العقلاء القليلين أن الدولة تمر بتغيرات ستؤدي بصورة كبيرة إلى تقليل مساحة الحرية حتى لليهود، وتنحو باتجاه تكريس ديكتاتورية يمينية عنصرية متطرفة لا تقيم وزناً لحقوق المعارضة للحكم حتى من اليهود أنفسهم، وللحديث بقية.