بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
الحرب الاسرائيلية متعددة الجبهات، أعادتنا لنتسمر أمام (فضائيات) الأخبار كل ما لدينا من فائض وقت، وهو ما ساعد على فرز القنوات العربية لنجد بينها من يعود للحياة ويستعيد ألقه الإعلامي ومنها من يسقط منتحراً بعد أن عجز عن تلبية احتياجات مشاهديه، وهو عجز ناتج عن عجز، في الكوادر وفي المعالجة وفي الإدارة..
يأتي على الإنسان حين من الدهر يسيطر على فكره ووجدانه هَم واحد فقط، يأخذه من شؤونه وأمور حياته، يسرق منه وقته وذهنه ومشاعره وأعصابه، يستحوذ عليه ويضع جداراً بينه وبين القدرة على الاستمتاع بسلوكيات وتفاصيل كانت تمنح حياته مذاقاً وطعماً قبل أن يفصله هذا الأمر الجلل عن كل ممتعات ومنغصات الحياة.
نعم لا بد أن يكون أمراً جللاً، لأن الصغائر لا تستحوذ على الفكر الإنساني مهما عظمت، ومنذ عام فرضوا علينا أن لا يشغلنا سوى العدوان الهمجي على غزة من خلال (فضائيات) عرية وعالمية، وزادنا انشغالاً تكرار الهمجية على لبنان، عدوان يخلق لنفسه الحجج الواهية للضرب والقتل والتدمير والتخريب.
ويحاول أن يقنع ضعاف النفوس في العالم بأن ما يفعله ليس سوى دفاع عن النفس، وكأن العالم لا يرى ولا يفكر ولا يحلل ولا يستوعب.
نعم في العالم دول وأنظمة وشعوب إما أنها أعطت العقل إجازة مفتوحة، وإما أنها تستمرئ هذا التدمير الممنهج لمنطقتنا، ترضى به وتؤيده وتدعمه وتجاهر بلا استحياء بأن العدو صاحب حق، وهي مدركة أنها لا هي ولا هو يعرفان للحق طريق، قست قلوبهم وأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة.
ولكن في العالم أيضاً أحرار، ضمائرهم حية، قلوبهم مع أهل لبنان وأهل غزة وكل مستهدف، يرفضون الظلم ويدركون أن لكل جبار نهاية، وأن هذه النهاية لن تأتي بالصمت المريب.
قنوات قادرة على السبق
ولكن بالتصدي له بصرف النظر عن الفرق بين قدراتها الضعيفة وأسلحتها المحدودة وبين قدراته الجبارة وأسلحته التي تخترق الحصون وتفجر الأرض وتزلزل الضمير الإنساني.
علّها توقظه من سباته العميق وتفيقه على حقيقة أن الاستقرار الذي تنشده الإنسانية لن يتحقق إلا بالتصدي لكل خارج على القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والأعراف والقيم الإنسانية.
الحدث الجلل الذي نعيش فصوله منذ عام في غزة ثم الضفة ثم لبنان وسوريا وإيران واليمن والبقية ستأتي، استحوذ علينا، أخذنا إلى شاشات (فضائيات) الأخبار التي كنا قد قاطعناها بعد أن تحولت إلى قنوات تعلك أخباراً لا جديد فيها.
اليوم هو يوم (فضائيات) الأخبار، البعض منها استغل الحدث ليثبت أنه لا يزال يملك نواصي التميز والتفوق، وأنه لا يزال قادراً على السبق، وأنه يتواجد في قلب المعركة بالرغم من المخاطر التي يتعرض لها مراسلوه ومندوبوه.
والذين دفع بعضهم حياته ثمناً لأدائه رسالته الإعلامية وفضحه ممارسات العدو الصهيوني الهمجية وإبادته للأطفال والنساء والشيوخ، وعدم تمييزه بين مدني ومقاتل، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين كبير وصغير.
ولا بين إنسان وحيوان ونبات، ولا بين بشر وحجر، وبعضهم دفع حياة أبنائه وذويه ثمناً لإطلاع العالم على حقيقة ونتائج التجبر الصهيوني التي يريد العدو طمسها أو إخفاءها.
نعم الحرب الممتدة منذ عام والتي تجولت بين مدن عربية عدة مستهدفة تدميرها وتحويلها لمدن أشباح، أعادت الروح إلى (فضائيات) تليفزيونية، كانت قد فقدت الكثير من رصيدها الجماهيري.
وفي نفس الوقت كتبت شهادة وفاة (فضائيات) لم يجد المشاهد فيها ما يشفي غليله ويلبي شغفه بمعرفة الجديد وتفاصيل التفاصيل عن الحرب، قنوات اختارت أن تكون خارج الزمن ، تعيش في الماضي وهي لا تعي أن الماضي قد ذهب وولى بلا رجعة، كل شيء في العالم تغير إلا أداء مذيعيها وأسلوب إدارتها.
كل مذيع فيها وله أداءه الخاص، لكل منهم مدرسته التي ينتمي إليها وأسلوبه الذي لا يشبه آخرين وكأن الإدارة لا وجود لها والتوجيه في إجازة مفتوحة، بعض مذيعيها أداؤهم ستيني.
(عاصمة الخبر).. شعار أجوف
ولكن بلغة غير سليمة كاللغة الستينية، يمدون في الحروف ويمطون في الكلام بما لا يتوافق مع زمن السرعة والفيمتو ثانية، يشبهون الروبوتات التي تم تلقينها لتفرغ ما تلقنته بنفس الأسلوب، نجحوا في أن يجعلوا من (عاصمة الخبر) شعاراً أجوف بعد أن خرج الخبر وطار واستقبلته عواصم أخرى وطورته.
ليكون ابن زمنه وليس ابن زمن مضى، وبه تتنافس وتجتهد وتتواجد في قلب الحدث وفي هذه الحرب تتواجد في قلب النار، تسابق الزمن للتميز وتحقيق التفوق الإعلامي.
المشاهد لا ينتظر من (فضائيات) الأخبار اليوم أن تذيع عليه خبراً، فما أكثر المصادر التي يمكنه معرفة الخبر منها، بل ينتظر منها أن تأخذه لموقع الحدث، تتجول به في أماكن المعارك والمواجهات والقصف، وأن تسبق غيرها للوصول إلى موقع الحدث.
وأن تقدم له الصورة الحية والتحليل والتوقع، وأن يكون لها طاقم محللين يعملون مع المذيعين جنباً إلى جنب، وأن تكون لديها القدرة للكشف عن ماوراء الخبر وعواقبه.
الإعلام الذي درسناه ونحن بعد طلاب بالجامعة لم يعد له مكان، المذيع الذي لا يتأثر بالحدث ولا يعبر عن مشاعره وهو يلقيه إعلام باهت، قالوا لنا أن المذيع الإخباري ينبغي أن يكون محايداً وهو جالس أمام الكاميرا.
ولكننا بالممارسة العملية اكتشفنا أن هذا الكلام يقتل الخبر، ويساوي بين الخبر المهم وغير المهم، كما اكتشفنا أن الحياد في الإعلام وهم، ولا توجد وسيلة إعلامية في العالم من أقصاه إلى أقصاه محايدة.
كل وسيلة إعلامية تنحاز للأرض التي تنطلق منها باستثناء الإعلام المأجور، وكل وسيلة تتبنى وجهة نظر الحكومة او الشخص أو الحزب الذي يمولها، هذه حقائق حتى لو خرجت على النظريات الأكاديمية الجامدة.
الغريب أن الدولة المصرية لها مواقفها الواضحة والمعلنة تجاه هذه الحرب منذ لحظة اشتعالها في غزة، وقد نددت مراراً بالمجازر والتجاوزات الاسرائيلية وكانت أول المحذرين منها والعاملين على منع تمددها وفعلت الكثير لأجل وقفها.
ولكن مذيعينا يقرأون حتى هذه المواقف بلغة الحياد الميتة، والنتيجة دفع كل مشاهد للبحث عن القناة التي تلبي شغفه المعرفي.
وإذا كان الإعلام لا يعرف الحياد فما بالكم ونحن نعيش حرباً إبادة، تستهدف مقدساتنا وأشقائنا ومنطقتنا وتاريخنا بل وتستهدفنا نحن!