في ذكرى (نور الشريف) التاسعة: نكشف سر رفضه في البداية لدور (عبدالغفور البرعي)!
كتب: أحمد السماحي
تمر اليوم الذكرى التاسعة للنجم الكبير (نور الشريف) الذي يمكن أن نطلق عليه فنان حتى النخاع، فهو كان يعطي من ثقافته وخبرته في الحياة ومشاهداته الكثيرة للسينما العالمية لكل دور يجسده.
واستطاع أن يبرهن على أن الممثل الجيد قادر أحيانا أن ينقذ فيلما أو مسلسلا، ويقدم على طريقته الخاصة وبموهبته فقط عالما له أبعاده وإنعكاساته وتأثيره.
كانت تربطني بالنجم الراحل (نور الشريف) علاقة صداقة طيبة، وأجريت معه أكثر من حوار، وكتب لي مقدمة كتابي (الدنجوان.. رشدي أباظة، أسطورة الأبيض والأسود).
وكان يردد لي أنه كان يضع مقولة المخرج (حسن الإمام) التى لخصت له التمثيل السينمائي أمام عينيه طوال مشواره، حيث قال له: (كل ما عليك يا نور هو أن تظهر على وجهك معاني وانفعالات الكلام قبل النطق به)، وذلك بعد أن عرف أنه أول مرة يمثل في فيلم (قصر الشوق).
اليوم نتوقف معه عند واحد من أشهر أعماله وهو مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي)، حيث يحكي لنا الكاتب والسيناريست الكبير (مصطفى محرم) كواليس هذا المسلسل، وسر رفض (نور الشريف) للمسلسل في البداية، وغيرها من الكواليس.
كما نتوقف عند شهادة الفنان (نور الشريف) عند مصادره التى استلهم منها شخصية (عبدالغفور البرعي)، فتعالى معي عزيزي القاري لنقرأ السطور القادمة:
سرعدم تحمس (مصطفى محرم)
جاءت المنتجة السينمائية (ناهد فريد شوقي)، ومعها قصة للكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس بعنوان (لن أعيش في جلباب أبي)، وذلك لإنتاجها مسلسلا للتليفزيون.
وربما قامت (ناهد) باختياري لكتابة هذا الموضوع لأنني كنت قد كتبت أعمالا سينمائية كثيرة ناجحة عن قصص وروايات لإحسان عبدالقدوس، مثل (ولا يزال التحقيق مستمرا، الراقصة والطبال..
وأرجوك أعطني هذا الدواء، أيام في الحلال، انتحار صاحب الشقة، حتى لا يطير الدخان، يا عزيزي كلنا لصوص).
وأخبرتني أنها اختارت لإخراج هذا العمل المخرج محمد شاكر، الذي كان يعمل في تلك الفترة معلقا أو راويا في الإعلانات، وكان يربح كثيرا من وراء ذلك، وبعد عرض القصة عليه اعتذر.
قرأت قصة (لن أعيش في جلباب أبي) ولم أتحمس لها كثيرا، خاصة أنها على الأكثر تصلح لأن تكون سهرة تليفزيونية، فالحدث الرئيسي محدود ويدور عن ابن رجل ثري يريد أن يسافر إلى أمريكا هربا من شهرة أبيه التى تلاحقه.
وهو يريد أن يبني نفسه ويصبح شخصية مستقلة، لأنه لا يريد أن يعيش في جلباب أبيه.
(أسامة أنور عكاشة).. ملك الدراما
يتابع (مصطفى محرم): تمنيت بيني وبين نفسي أن أستطيع الإفلات من هذا العمل، وحاولت الاعتذار لناهد لعدم قدرتي على كتابة هذا المسلسل، وفي هذا القدر من الحلقات التى تتجاوز الثلاثين.
وربما كان هناك سبب آخر وهو وجود الكاتب (أسامة أنور عكاشة)، فقد كان متربعا في ذلك الوقت على عرش الكتابة التليفزيونية، في الوقت الذي كنت أتربع على عرش الكتابة السينمائية.
فخشيت بالطبع أن أكون ملكا في السينما، وفي التليفزيون مجرد كاتب مثل بقية الكتاب، ولكن (ناهد فريد شوقي) أصرت وأخبرتني بأن لا أحد يستطيع أن يكتب هذا الموضوع غيري.
وفي الواقع أنني تراجعت عن الرفض النهائي مجاملة لصديقي الملك (فريد شوقي) فقد كنت من أقرب الناس إليه، وخشيت أن يغضب مني لأنني خذلت ابنته في أمر لجأت فيه إلي.
يضيف (مصطفى محرم): بعد أن تعاقدت (ناهد) معي دخلنا في دوامة البحث عن مخرج لهذا المسلسل، واقترحت (ناهد) أسماء بعض مخرجي السينما، ولكن لم أتحمس لهذا الأمر، كان في ذهني مخرج كبير.
ولكنه كان زوج شقيقة زوجتي وهو المخرج (أحمد توفيق)، خشيت أن أقول أسمه حتى لا يقول البعض أنني رشحته نظرا لقرابته مني، لكن بعد حيرة (ناهد) اقترحت اسمه، فتحمست له بقوة.
وتعاقدت معه على الفور، وقمت بكتابة معالجة للموضوع من واقع القصة بشكل يبرز الابن والفتاة الأمريكية التى تزوجها، لكن شعرت أن هذه المعالجة ينقصها شيئ ما.
المهم أننا أخذنا نتحدث في أمر الممثلين، وجرى طرح أسماء كثيرة كان أولها (محمود عبدالعزيز، ويسرا، ومعالي زايد)، أما الابن وهو البطل الحقيقي ففكرنا في (خالد النبوي).
أحمد توفيق اختار (عبلة كامل)
يستكمل (مصطفى محرم) كلامه فيقول: جلست مع (ممدوح الليثي) رئيس قطاع الإنتاج، وطلب معرفة أسماء الأبطال، فذكرت له الأسماء المقترحة فأتصل ببعضها، وسألني وفي حالة رفض هؤلاء الأبطال؟!
فقلت له: إنني أرى (نور الشريف) و(معالي زايد)، واستبعدت (يسرا) لأنها لو موجودة في الحارة لتهافت عليها الرجال من أجل الزواج بها.
وبعد رفض (محمود عبدالعزيز، ومعالي زايد) لأسباب مختلفة تتعلق بالأجر، وخلافه، أرسلت المنتجة القصة والمعالجة إلى (نور الشريف)، وبعد القراءة اتصل بي (نور) ورفض الدور، وتمنى النجاح لنا.
وبعد يومين قابلت (نور الشريف) بالمصادفة وسألته عن سر رفضه للدور، فقال لأن البطولة الحقيقة للإبن وليس الأب، فطلبت منه أن يصبر إلى أن أنتهى من كتابة الخمس حلقات الأولى.
وحاولت بقدر الإمكان أن أتبع الأسلوب السينمائي في الكتابة، أي المشاهد القصيرة السريعة، والحوار الذي يعتمد على الجمل القصيرة، وانتهيت من الحلقة الأولى وقرأها (أحمد توفيق) وزوجته (رباب حسين) مساعدة المخرج، والمنتجة (ناهد فريد شوقي).
وأبدوا إعجابهم بها مما شجعني على المضي في الكتابة إلى أن انتهيت من الخمس حلقات، وقرأ (نور الشريف) الحلقات في يومين، وقام بالاتصال المخرج أحمد توفيق وأخبره بأنه معنا، وقامت (ناهد) بالتوقيع معه.
وبعد أن بالغت (معالي زايد) في أجرها، أختار المخرج أحمد توفيق، الممثلة (عبلة كامل) لتلعب دور (فاطمة كشري)، ولكني لم أكن متحمسا لها، فلم أكن شاهدت لها حتى تلك اللحظة عملا متميزا.
أما شخصية الحاج (سردينه) فقد وقع اختيارنا على (حسن حسني)، ولكنه هو الآخر بالغ في الأجر، فأختار (أحمد توفيق) الفنان الكبير (عبد الرحمن أبوزهرة)، فخشيت عليه من هذا الدور، ولكن (أحمد توفيق) أخبرني بأنه على ضمانته.
ورشحت (فتوح أحمد) لدور (سيد كشري) أخو (فاطمة) ولكنه اعتذر لذهابه للعمرة، وتحمس (ممدوح الليثي) بحسه الفني لهذا المشروع، ووقف إلى جانبه.
تصورت أنه مسلسل عادي
يقول (مصطفى محرم): بعد انتهاء تصوير المسلسل كنت أعتقد أنه مسلسل (عادي) مثل بقية المسلسلات، وعندما قرر ممدوح الليثي ألا يعرضه في شهر رمضان، لم يكن ذلك يعني لي شيئا.
فقد أعتدت في السينما بأن الفيلم الجيد ينجح في أي وقت وفي أي مكان، وتوقع ممدوح الليثي أن نعترض على هذا القرار، ولكن لم يهتم أحد بذلك حتى (نور الشريف).
وربما كان (ممدوح الليثي) يخشى على أن ينافس هذا المسلسل ما أنتجه القطاع من مسلسلات، خاصة (نصف ربيع الآخر)، الذي كان يضع كل آماله عليه، وكانت تسبقه دعاية ضخمة.
وكان الليثي يضع آماله أيضا على مسلسل (من الذي لا يحب فاطمة) من إخراج أحمد صقر، وكانت تسبقه هو الآخر دعاية كبيرة، ولكن ما لبث أن غير (ممدوح الليثي) رأيه وقرر عرض المسلسل في شهر رمضان.
وبعد عرض الحلقات الأولى قلب المسلسل الأمور رأسا على عقب، وحقق نجاحا ساحقا، وكل يوم أتلقى اتصالات الأعجاب من كبار الكتاب والنجوم والجمهور العادي منهم (عبدالحي أديب، بهيج إسماعيل، وممدوح الليثي) وغيرهم.
(نور الشريف).. وعمال التراحيل
أما الفنان الكبير (نور الشريف)، فتحدث مع الناقد الكبير (كمال رمزي) عن شخصية (عبدالغفور البرعي) في مجلة (فن) اللبنانية، فقال: لقد استقيت طباع (عبدالغفور البرعي) من عدة نماذج وليس نموذج واحد.
من هذه النماذج قريب لنا من الصعيد كان يزورنا كلما جاء إلى القاهرة مدفوعا بالشهامة والرغبة في الحفاظ على الود، وغالبا ما تكون زيارته قصيرة، خفيفة، كي لا يثقل على أحد، فأخذت منه هذه الحساسية.
وشخص آخر كان يعمل في تجارة الأخشاب لم يكن متعلما، ومع هذا امتلك فهما عميقا للحياة، وكنا نستمتع بأحاديثه (أنا وبوسي) وطريقته في الكلام، فضلا عن كياسة تصرفاته.
وفي مرحلة فقر (عبدالغفور البرعي) أخذت الشكل الخارجي من عمال التراحيل الذين يجلسون كل صباح عند سور نادي الزمالك، بانتظار من يطلبهم للعمل.
وتجدهم يرتدون الجلباب المقطوع من الجنب، (المداس) القديم كالح اللون، تشقق الكعبين، خشونة الكفين، الذقن غير الحليقة، ربط الطاقية حول الرأس بقطعة قماش، والأهم تلك النظرة المسالمة المستكينة التى تلتمع بالأمل عندما يقترب منهم من يطلب عمالا.
أما في مرحلة الثراء، فاستوحيت الملابس، من ملابس الفنان (محمود إسماعيل) في فيلم (سمارة)، استبدلت الطاقية بعمامة من حرير، فضلا عن شال أنيق، مع حذاء لامع، ومعطف من الصوف التقليدي.
وليس من القماش الحديث، وتحت المعطف جلباب نظيف، يغطي السروال الطويل، وصديري بأكمام، وكان التصور المبدئي أن يرتدي (عبدالغفور البرعي) بذلة في مرحلة الثراء.
وبعد المناقشة مع المخرج (أحمد توفيق) المتفهم تماما لفن التمثيل، والمتمتع بحس فني مرهف، وصلنا إلى نتيجة مؤداها أن عبدالغفور البرعي متمسك بالأصول، وبالتالي فمن الصعب أن لم يكن من المستحيل أن يغير مظهره تغييرا كاملا.
عبلة كامل ساعتدني بأدائها
ويضيف (نور الشريف): أحببت علاقتي ببناتي والتى صاغها بمهارة ورقة وحرارة السيناريست (مصطفى محرم)، واضعا في اعتباره ما يتمتع به (عبدالغفور) من تحضر إنساني، برغم أنه لم ينل علما، وربما هذا هو السبب في إصراره على أن يتعلمن، وأن يستكمل ابنه الوحيد تعليمه، مع عدم تدخله في نوعية هذا العلم.
استحضرت في مشاهدي مع بناتي، إحساسي بابنتي في الحياة (سارة ومي)، ولذلك كانت نظراتي لبناتي حانية تفيض بالمحبة، وإن كانت لا تخلو من قلق عليهن، خاصة تجاه الابنة سيئة الحظ والتصرف.
والحق أن (عبلة كامل) ببساطة أدائها العفوي ساعدتني كثيرا في تقمص دوري، وكانت تصل إلى الذروة في مشاهد الحب معي، حب البسطاء الذي يختلف تماما عن الحب كما يظهر عادة في أعمالنا.
فهنا في (لن أعيش في جلباب أبي) تعبر اللمسة والنظرة والابتسامة عن مشاعر أكثر وأعمق وأغني من ركام الجمل العاطفية، ونظرات الهيام الغارقة في الغيبوبة.