بقلم: محمود حسونة
ما أحلى الرجوع إلى الزمن الجميل، وما أجمل استعادة أصالتنا التائهة وسط زحام الحداثة التي لا تبث فينا سوى السموم، سموم إلكترونية وسموم عقائدية، وسموم اجتماعية وسموم أخلاقية، وكلها لا تروج بيننا سوى ما يناهض القيم ويعتدي على المبادئ، ويأخذنا إلى عالم تختلط فيه المفاهيم، حتى تتشوه النفوس وتتشوش العقول وتتداخل الرؤى، ويصبح الإنسان عاجزاً عن اتخاذ القرار السليم، مما يدفعه غالباً إلى طريق الهاوية، والهدف هو أن يكون جاهزاً للسقوط في الفخ الذي ينصبونه له حتى تسهل السيطرة عليه واقتياده وفق إرادتهم وتحويله من حر أبي إلى ذليل خاضع وخانع.
أفضل الوسائل لاستعادة أصالتنا هو أن نراها أمامنا مجسدة في عمل فني، يساعدنا على التمييز بين الغث والثمين في زمن التيه الذي نعيشه، بعد أن انهارت الأسرة، وتمرد صغيرها على كبيرها، وهو ما أدى إلى فساد علاقات الآباء والأمهات بالأبناء والبنات، وفساد علاقات الأشقاء، لينفرط عقدها ويستقل كل من أفرادها بذاته، يعيش وحيداً مفتقداً الدفء حتى لو كان يقيم داخل بيت مأهول بالبشر ولكنه خال من الحب والوئام والاحترام والاحتواء.
كثير من البيوت اليوم مأهولة بأم وأب وأولاد، ولكنها كالخاوية عليهم جميعاً، فالمسافات الجغرافية شبه معدومة ولكن المسافات النفسية شاسعة، ولكل عالمه الذي لا يعرف الآخرون عنه شيئاً، يدور حول نفسه ولا يسمح للأقربين بالاقتراب، يفضّل الغرق وحيداً ولا يسمح لأهله وذويه بمد أيديهم إليه لانتشاله، حالات من الغربة أفضت إلى ما نطالعه يومياً من حوادث انتحار وضياع وتطرف وعنف لا تشبهنا، ولكنها تحدث في مجتمعاتنا، وأصبحت أمراً واقعاً لا يمكننا إنكاره.
ومثلما يلعب الفن دور في تفككنا وانهيار قيمنا، فإن له أيضاً استعادة أصالتنا، ولو أراد القائمون عليه لأمكنه أن يؤدي دوراً جوهرياً في اختلاق وتجسيد نماذج مضيئة في الحياة يمكنها أن تساعد الضالين بيننا اجتماعياً وقيمياً على العودة عن ضلالهم، وهو ما ينعكس إيجابياً على المجتمع ويمكّنه من استعادة سلامته، والعودة إلى قيمه.
مسلسل (وبينا ميعاد)، نموذج للأعمال التي نحتاج إليها في هذا الوقت العصيب، فهو دراما أسرية مليئة بالقيم، تزرع الخير في النفوس وتنثر الراحة بين الناس وتعالج المعوج في علاقات الآباء والأمهات بالأبناء والبنات، وتؤكد أن سكوتنا عن الكلام مع أهالينا يمكنه أن يأخذنا إلى طريق الندم، وأن في داخل كل منا عقد نفسية تكبر وتتضخم عندما نبتعد عن أقرب الناس إلينا، وأن بيننا أبناء يجحدون عندما نعجز عن التواصل معهم، والحوار هو العلاج لكل المشاكل بين أفراد الأسرة، وغيابه يكون نذير شؤم على جميع أطرافها.
(وبينا ميعاد)، يواصل من خلاله المؤلف والمخرج هاني كمال محاولة إحياء القيم الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة، والتي يمكن أن تكون العلاج الناجح لها للخروج من أزماتها، وذلك من خلال أسرتين، أب فقد زوجته وتحمل وحيداً تربية أبنائه الأربعة، زرع فيهم المبادئ وتحمل لأجلهم عدم الارتباط ثانية وعايش معهم مشاكل مراحلهم العمرية المختلفة، طبطب وقسى حسب المواقف والظروف لتكون علاقته معهم أحياناً علاقة الصديق بأصدقائه وأحياناً أخرى علاقة الأب الحاسم بأبنائه؛ وفي المقابل أسرة ثانية تتحمل فيها مسؤولية أربع بنات أم تركها الزوج لعجزه عن تحمل المسؤولية، وأعطت حياتها ومشاعرها وعقلها لهن، منحتهن الحب وعاشت وحدها الخوف عليهن من المجتمع وقسوته وانحرافاته، تخلت عن متطلباتها الأنثوية لأجلهن، وفي خريف العمر التقى والد الأولاد الأربعة ووالدة الفتيات الأربع معاً في العمل، بعد أن تم تعيين الأم رئيسة للشركة التي يعمل فيها الأب، فهي مهندسة ناجحة وهو كذلك، وبعد أن عرف كل منهما ظروف الآخر بدأت مشاعر الحب تتسلل إليهما، ولم يجدا أمامهما سوى الزواج سبيلاً لتشارك مسؤولية الثمانية أولاد وبنات، ولتعويض الوحدة التي عاشها كل منهما، لكن يتآمر عليهما الأولاد والبنات لإفساد هذه الزيجة، وتتوالى الأحداث.
المسلسل يتضمن عدداً آخر من المحاور التي تدور في فلك العلاقة بين الأبناء والآباء، فبجانب أسرتي المهندس (حسن) وأولاده الأربعة والمهندسة (نادية) وبناتها الأربع، هناك علاقة المهندس (رمزي) الذي فقد زوجته هو الآخر وتفرغ لتربية ابنه (إيهاب) الذي يشك في أنه هو السبب في وفاة والدته، وهناك حكاية المسنة جميلة وارتباطها بمن أحبته شابة بعد زواج فاشل فرضه عليها والدها، علاقات ثرية متشابكة وكلها تدور في فلك العلاقات الأسرية، لتؤكد أن الأب وحده لا يغني عن وجود الأم والعكس صحيح، وأن الحب وحده هو الكفيل بتنشئة أسرة سليمة، وأن الحوار وحده هو الذي يصحح المفاهيم ويحل الأزمات، وأن الحب هو كلمة السر الوحيدة لسلامة كل العلاقات الاجتماعية، وأن مفهوم الحب لا يقتصر على رجل وامرأة، ولكنه مفهوم أشمل وأوسع يغطي كل العلاقات الاجتماعية بغطاء السلام والأمان والطمأنينة والثقة، وأنه مفتاح النجاح في الحياة.
البطولة في هذا المسلسل لـ (صبري فواز وشيرين رضا ومدحت صالح وبسمة ووفاء صادق) وعدد من المواهب الشابة من الجنسين، وكل الأبطال ليسوا من نجوم الصف الأول ولكنهم فنانين تم تسكين كل منهم في الدور المناسب له، ليبدع كل منهم في دوره، وهو ما لمسه الجمهور الواسع الذي تابع المسلسل ووجد كل مشاهد نفسه طرفاً في الأحداث، بعد أن تلامست مشاعر الممثلين الصادقة وحوار الشخصيات المعبر مع مشاعر المشاهدين، ليؤكد الجميع أن نجاح العمل الفني لا يتطلب بالضرورة إسناد بطولته إلى نجوم الصف الأول، بقدر ما يتطلب نصاً قوياً وقضية مهمة وممثلين موهوبين بصرف النظر عن مساحة شهرتهم.