بقلم : محمود حسونة
الصراع بين القضاء والفساد أزلي أبدي، الفساد يسعى دائماً لالتهام خيرات الدول وحقوق الآخرين مرتكباً كل الموبقات ومتجاوزاً كل القوانين والحدود المجتمعية ومتاجراً في الممنوع والهادم، وجالباً كل المصايب والكوارث، والقضاء له بالمرصاد، ملاحقاً ومحاكماً وفاضحاً ومديناً ومقراً له بالعقاب الذي يتوازى مع حجم جرائمه لتتولى الشرطة التطبيق وتنفيذ الأحكام.
بعد أن تعددت أشكال الفساد وتجاوزات الفاسدين وكثرت قضايا ملاحقتهم ومحاكمتهم، أصبح للقضاء والفساد وجود في أعمال درامية وسينمائية مختلفة، ولكنه الوجود العابر من خلال مشهد أو مشاهد معدودة، تضيء بشكل سريع وعارض على هذا الجانب دون أن تتعمق وتكشف الأبعاد والملابسات وتتناول الملامح الاجتماعية لكل من الفصيلين، وهو ما حققه لأول مرة في الدراما المصرية مسلسل “ملف سري” الذي عرض في رمضان الماضي وتعيد عرضه حالياً بعض القنوات.
القاضي مكروه دائماً من الفاسدين وهو هدف لهم، يستخدمون معه كل الأساليب غير المشروعة والاغراءات المختلفة في محاولة لتحويله من لسان حق وسيف على رقابهم إلى لسان باطل وسيف في أيديهم، ولكن القاضي العادل النزيه ليس بضاعة تباع وتشترى ودائماً يقظ الضمير ليس له من هدف سوى تحقيق العدالة ومجازاة المجرمين والمفسدين، وهذا هو بالضبط ما تدور في فلكه أحداث (ملف سري).
أثبتت التجارب أن الدراما البوليسية والروايات البوليسية تحقق أعلى نسب مشاهدة وقراءة، ولذا فإن سلسلة روايات أجاتا كريستي البوليسية والغامضة من الأعلى قراءة كأدب والأعلى ايراداً في السينماالعالمية، ومسلسل (ملف سري) لا يختلف كثيراً عن الأعمال البوليسية، ولعل الاختلاف أنه يستبدل شخصية ضابط البوليس أو المحقق السري بشخصية القاضي، مضيئاً على همومه المهنية وحياته الاجتماعية وملاحقات الفاسدين الخائفين من عدالته له ولعائلته.
2013 كان هو العام الأكثر سواداً في التاريخ المصري المعاصر، حيث الانفلات الأخلاقي والاضطراب السياسي والفوضى الاقتصادية، وتفرغت الدولة خلال نصفه الأول لمحاصرة القضاء والتضييق على القضاة وفئات مهنية أخرى، وكان المجال فسيحاً أمام الفاسدين من رجال الأعمال لالتهام موارد الدولة وسرقة جيوب الشعب، ولذا اختار صناع (ملف سري) هذا العام زمناً لأحداثه، والتي تناولت بعضاً من الضغوط التي مارسها رجال الأعمال (عائلة المالكي ومرتزقيها) على المستشار النزيه العادل يحيى عز الدين (هاني سلامة)، وقد وصلت الضغوط إلى حد محاولة النيل من جميع أفراد أسرته إبتداءً من قتل خطيبته (رحمة حسن) ومروراً بشراء أخيه المحامي الكبير (نضال الشافعي) وخطف الطفلة مليكة ابنة أخته واقتحام مكتب والدته رئيسة التحرير (مادلين طبر) وتهديدها به وبحفيدتها، وصولاً إلى محاولة قتله وتهديده في سمعته.
الطرف الفاسد، يبدو للمشاهد أنه عائلة المالكي فقط ولكن هذه العائلة وراءها كتيبة من الفاسدين سواء من المتعاونين معها بالداخل أو الخارج أو المستفيدين من فسادها أو الساعين لتصفية حسابات معها نتيجة أعمال قذرة مشتركة، أو تصفية حسابات المنتمين إليها مع بعضهم، لتبدو عائلة مدمرة اجتماعياً، فالشقيق ليس شقيق، والأخ يتآمر على أخيه، والزوجة تتآمر على أسرتها وتخطف حفيدها لأجل الأموال، والطرفان الوحيدان النقيان في هذه العائلة تمثلهما جوري (كارولين عزمي) ابنة يوسف المالكي (ماجد المصري) التي تهرب من فساد واهتراء عائلتها إلى شاب تتزوجه لتكتشف بعد عقد قرانهما أنه قاتل شقيقها، والطرف الثاني هو مريم المالكي ( عائشة بن أحمد) التي تبدو ملاكاً يخرج من عائلة شياطين، ترفض أنشطة والدها (محسن محيي الدين) المشبوهة وتقاطعه وتكتشف أن خطيبها وابن عمها كان يتاجر باسمها بعد مقتله، وتتعاطف مع شقيقها الذي اغتالت نقاءه تصرفات والده، ولا تجد أمامها سوى المستشار يحيى عز الدين لانتشالها من هذه البيئة الفاسدة، فتقع في غرامه في النهاية.
الفنان (هاني سلامة) جسد شخصية القاضي الذي يضحي بوظيفته ليكشف فساد (عائلة المالكي) والحريص على صديقه والمحب لعائلته بتميز وبساطة جعلت الناس تحب شخصية القاضي رغم لا منطقية أن يكون شاباً أربعينياً ويرأس محكمة استئناف، وهو الأصغر سناً من قاضي اليمين واليسار وهو الأمر الذي اعتبره بعض القضاة غير واقعي.
البطل الأول في هذا المسلسل هو السيناريو الذي كتبه الشاب الموهوب (محمود حجاج) ليقتحم من خلاله مجال الكتابة الدرامية ويحجز لنفسه مكاناً مميزاً على خريطتها المستقبلية، من خلال نص مثير ومشوق والعلاقات فيه مليئة بالغموض، ليفاجئ المشاهدين في كل حلقة بجديد غير متوقع ويربط الناس بحلقاته منذ الأولى وحتى الثلاثين من خلال مفاجآته الدرامية الكثيرة وغير المتوقعة، وقد يكون حرص المؤلف على كثرة المفاجآت دفعه للمبالغة بعض الشيء ليأتي بعضها لا منطقي ولتأتي العلاقات متشائمة بشكل لا يتقبله البعض، ولكن قد تكون المبالغة أحياناً طريق للاستحواذ على المشاهدين. أما المخرج حسن البلاسي، فقد كانت قدرته على إدارة هذا الكم من الفنانين بنجاح شهادة نجاح له منذ عمله الأول، أما شهادة التفوق فكانت في اختيار الأبطال ووضع كل واحد منهم في مكانه المناسب، ليكشف كل واحد عن مقدرة تمثيلية متفردة، ومنهم على سبيل المثال، ماجد المصري في يوسف المالكي، وعائشة بن أحمد في مريم المالكي، وكارولين عزمي في جوري، وادوارد في الاعلامي حازم صديق المستشار، ونضال الشافعي في شخصية شاكر شقيق المستشار ومادلين طبر في دور والدته، وإيهاب فهمي في دور حسين.
الكل أجاد ولكن بين الممثلين من تفوق على نفسه مثل محمد محمود عبدالعزيز في ليل المصري، ومحسن محيي الدين في دور هارون المالكي وكأنه يعلن من خلاله عودته الحقيقية للتمثيل بعد الاعتزال، وأحمد الرافعي في دور ناجي ليقدم من خلاله الشرير بشكل مختلف.
(ملف سري) رسالة شكر وتقدير لرجال القضاء الذين كانوا أحد حصون الحماية للدولة المصرية وتجاوزوا الضغوط التي مورست عليهم وحرصوا على تطبيق القانون على كل من يحاول النيل من استقرارها، وهو تحية مستحقة للقضاة من فنانين يستحقون أيضاً كل التقدير من المشاهدين، ومحاكمة للفساد بألوانه وأشكاله وألاعيبه وحيله.