(رشاش) وثورة التغيير
بقلم : محمود حسونة
عندما تهب رياح التغيير، فإن عواصفها لا تترك مجالاً إلا وتخترقه وتحدث فيه ما يؤهله للمبتغى؛ وعندما تتوافر إرادة التغيير لدى صاحب القرار، وتكون القاعدة الشعبية منتظرة له أو حالمة به، فإنه سرعان ما يتحقق ويصبح واقعاً يلمسه الجميع.
والتغيير الذي حدث في المملكة العربية السعودية لم يكن مجرد قرارات تسمح للمرأة بقيادة السيارة وتمنحها مساحة من الحرية، وتسمح بإنشاء دور سينما وتشجع صناعة الترفيه وتستضيف العروض المسرحية وتنظم الحفلات الموسيقية والغنائية والمهرجانات الفنية المتنوعة، ولكنه تغيير استهدف الإنسان وأنماط تفكيره وملامح شخصيته مستغلاً أن قطاع عريض من الشباب تلقى تعليمه في الخارج واختلط بالآخر واستوعب ثقافات مختلفة، وكان يعيش داخل بلاده منتظراً لقرار التغيير ومستعداً لتحويله من قرار على الورق إلى نهج حياة وأسلوب تعامل وحافز إبداع.
من أكثر المجالات التي كانت حالمة بالتغيير في السعودية، مجال الإبداع الفني، حيث أن التغيير بالنسبة له كان بمثابة تحطيم للقيود التي كبلت المبدعين عقوداً وسنوات، وتحرير له من الأسر الذي حوّله إلى صناعة لا أمل فيها ولا قبول لها.
رياح التغيير في السعودية لفحت الفنون عامة منذ لحظة هبوبها، وبعد أن كان السعوديون الأكثر سفراً لحضور مهرجانات أو مسرحيات، أصبحوا الأكثر إقبالاً على الأعمال التي تعرض داخل بلادهم سواءً كانت سعودية أو غير سعودية، كما أنهم أصبحوا الأكثر إقبالاً على كل ما هو ترفيهي، ومن يطالع صور حفلات وفعاليات موسم الرياض المنعقد حالياً يرى أن حجم الإقبال كبير وقد يكون غير مسبوق في مدن عربية أخرى.
الجمهور السعودي كان متعطشاً للفن، وهو ما خلق لديه الحماس للالتفاف حول الأعمال الفنية المتاحة له، وفي المقابل كان الفنانون السعوديون في أمس الحاجة لمساحة إبداعية يثبتون فيها قدرتهم على تقديم ما ينال إعجاب الجمهور ويكشف عورات المجتمع ويسلط الأضواء على السلبيات أملاً في أن تمتد إليها رياح التغيير.
مؤخراً أثار مسلسل (رشاش) حالة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلام، وهو جدل حول الجرأة في تناول حياة قاطع طريق حقيقي اشتهر في الثمانينات، كان رقيباً في الحرس الوطني وكان الأمهر بين زملائه في القنص، وتم طرده نتيجة تجاوزاته، ليخرج من الحرس مكوناً عصابة للسرقة والسطو والقتل ومتحدياً الشرطة والأجهزة الأمنية.
المسلسل دراما أكشن وقد عرضته إم بي سي ومنصة (شاهد في آي بي) مع تحديد عمر مشاهدته بالثمانية عشر وما فوق لما فيه من قتل ودم وتعذيب وفجور في الانحراف والتجاوز، وقد أثبت أبطاله ومعظمهم سعوديون أنهم جديرون بالنجومية ويملكون موهبة لا تقل عن غيرهم من النجوم العرب، بل ويتفوقون أحياناً، وقد تألق الفنان يعقوب الفرحان في دور رشاش ليكون بأدائه السلس نجم المسلسل بلا منازع. وفي المقابل أجاد الممثل نايف الظفيري بدور النقيب فهد، وتحولت المشاهد الجامعة بين رشاش وفهد إلى مباراة في التعبير الجسدي والصوتي والتعبير بالعيون، أما الممثل خالد يسلم والذي جسد شخصية قائد الشرطة فقد كان مبالغاً في حدته وصراخه وهو يعطي الأوامر للضباط الذين يعملون تحت إمرته.
الجرأة في المسلسل امتدت إلى انتقاد الفساد الموجود في أجهزة أمنية حساسة مثل الحرس الأميري، والشرطة، وهو الأمر الذي لا يزال مرفوضاً في دول عربية صاحبة تاريخ فني عريض.
التغيير لم يقتصر على تناول هذه الشخصية التي شغلت المجتمع السعودي في منتصف الثمانينات وأصبحت مصدراً لرعب الكثيرين، ولكن في تحطيم الكليشيهات التي صبغت الدراما السعودية لسنوات، وخاصة للمساحة الممنوحة للتعبير في العلاقة بين الرجل والمرأة، فقد أصبح طبيعياً أن تظهر المرأة مكشوفة الشعر، وأصبح مسموحاً الاقتراب بين الرجل والمرأة في المشاهد التي تجمع بينهما، ولم يعد مرفوضاً أن يلمس الزوج زوجته أو يتابع حركة جنينهما في بطنها لمساً، أو أن يقبل الشاب والدته على جبينها عرفاناً وتقديراً، وهي مشاهد تكررت في مسلسل (رشاش) وفي غيره من الأعمال التي تم إنتاجها مؤخراً والتي تقود ثورة التغيير في الدراما السعودية.
ما يؤخذ على المسلسل هو بطء الايقاع لدرجة أن بعض المشاهد تطول فترات الصمت فيها التي تتخلل الحوار بين بطلين وبشكل ممل.
رغم أن جميع ممثلي المسلسل سعوديون إلا أنه أجنبي التأليف والإخراج والتصوير، وإذا كان الأمر مبرراً على مستوى الإخراج فهو غير مبرر على مستوى التأليف خصوصاً أن القصة حقيقية وقد عاش تفاصيلها المجتمع السعودي في الثمانينات.
لا يمكن إنكار أن الفنانين السعوديين اللذين حاولا التمرد على جمود الدراما السعودية، وكونا ثنائياً نجح في ذلك نتيجة الإصرار والوعي باحتياجات الجمهور وفهم طبيعة المجتمع، هما ناصر القصبي وعبدالله السدحان، حيث قدما أنجح سلسلة درامية سعودية باسم (طاش ما طاش) على مدار 18 عاماً، ولأن (الحلو لا يكتمل) في عالمنا العربي فقد انفصل هذا الثنائي بعد أن حقق نجاحاً سعودياً وخليجياً، ليواصل كل منهما رحلته بطريقته، وبعد الانفصال واصل القصبي السباحة ضد التيارات السائدة، من خلال العديد من الأعمال التي استحوذت على نجاح جماهيري كبير وانتقدت بحدة مشاكل اجتماعية سعودية بطريقة كوميدية ساهمت في استحواذها على رضا الجمهور.