الحيطة المايلة (5) .. موت الرّقـيب
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
اعترض أحد السادة أعضاء مجلس النواب على افتتاح عدة مكاتب فى الأقاليم تابعة للرقابة على المصنفات الفنية لائما على وزارة الثقافة هذا التوسع قائلا إن هذا يعيق الابداع . و فى هذا لديه كل الحق ، فالإبداع الفنى سواء كان مسرحيا او سينمائيا أو غنائيا تحكمه و تتحكم فيه قوانين الرقابة ، فليس من حق المبدع البدء فى تصوير أى فيلم دون موافقة الرقابة على السيناريو أولا ، ثم يشاهد الرقباء الفيلم بعد اتمام تصويره ، للترخيص بعرضه عرضا عاما ، أو بالتداول على أشرطة أو اسطوانات أو أى وسيلة من الوسائل التقنية ، أو حتى تصديره للخارج . و كذلك الحال بالنسبة للمسرح ، فالنص يجب أن يُوافق عليه مبدأيا قبل الشروع فى انتاجه و يتم التصريح النهائى بالعرض بعد مشاهدة البروفة النهائية ، و عدم تنفيذ أيا من الخطوات السابقة فى أى مصنف فنى يُخضع صانعه لعقوبات قانون الرقابة التى تصل الى السجن و الغرامة .
و من حق الرقيب رفض أى مصنف فنى فى أى مرحلة من المراحل السابقة أو سحب الترخيص لأى سبب ، و فى المقابل من حق المبدع أن يشكو للجنة عليا تضم أعضاء حددهم القانون للنظر فى تظلمه . و إذا تساهل الرقيب و لم يمنع العمل ككل ، و حاول إجازته بشرط تنفيذ بعض الملاحظات سواء بالحذف أو الإضافة ، فعلي المبدع تنفيذها حتى لو كانت ستغير وجهة نظره و رسالته المرجوة من العمل و إلا فلن يحصل على الترخيص .
و الغريب أن إعطاء الترخيص بالعرض أو الحرمان منه لا يخضع لقواعد معروفة أو ثابتة ، بل يخضع لتفسير الرقيب للقانون الذى ينص على أن مهمة الرقابة “حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا “، و هى كلمات مطاطة تحتمل تفسيرات عدة تتغير من عصر إلى عصر ، كما تختلف من رقيب الى آخر تبعا لمدى ثقافتة و تفتحه و شجاعته . و بما أن الشجاعة داخل إطار الوظيفة تعتبر تهورا ، لذا فمعظم الرقباء يسيرون على مبدأ ( من خاف .. سِلَم ) فيحاولون إرضاء الدولة بأن يكونوا ملكيين أكثر من الملك خوفا من بطشها .
و حين طُرحت فكرة إلغاء الرقابة ، و أن يتحمل المبدع مسئولية العمل أثناء جلسات الاستماع التى عقدها برلمان الإخوان لصياغة الدستور ، اكتشف المبدعون أن فى وجود الرقابة حماية لهم ، فالحصول على تصريحها يعفيهم من العقاب الذى قد يصل إلى السجن ، فى حين أن العقاب بالنسبة لأى رقيب هو عقاب إدارى بالخصم من المرتب أو تأخير الترقية ، و برغم أن الرقابة تحمى المبدعين أحيانا إلا أن اعتراضهم علي وجودها دائم و أبدى و فى كل العصور .
فمنذ انتقال تبعية الرقابة بعد ثورة يوليو من وزارة الداخلية إلى وزارة الثقافة ، و صدور قانون رقم 430 لعام 1955 الذى ينظم عملها ، تولى منصب الرقيب ( رئيس جهاز الرقابة ) فى فترة الخمسينات و الستينات بعض المبدعين و المثقفين ( أشهرهم نجيب محفوظ ) و لكن لم يمنع هذا أن مبدعين آخرين اصطدموا بالحدود التى وضعت تبعا لمفهوم الرقيب عن المصلحة العليا للوطن ، و برغم ديكتاتورية عصر عبد الناصر – كما يزعمون – فقد تم التصريح بعرض مسرحية “الفتى مهران” التى كانت ضد حرب اليمن ، و أذيعت أغانى للأبنودى و سيد حجاب و هما نزلاء السجن متهمين بالانضمام لتنظيم شيوعى ، و أستضيف أحمد فؤاد نجم فى الإذاعة ، و صرح عبد الناصر بنفسه بعرض فيلم “شيئ من الخوف” ، أما فى عصر السادات فيقال انه كانت هناك قائمة ممنوعات تضم أسماء بعض المؤلفين الأجانب ذوى الميول اليسارية و نصوص بعينها منها يوليوس قيصر لشكسبير ، كما تم منع تقديم عدة نصوص لمحمود دياب و سعد الدين وهبه و يوسف إدريس و أشعار لكثيرين من الشعراء .
و جاء مبارك بهامش ديمقراطى أوسع مما أتاحه سابقوه ، خشية أن يحدث فى عصره ما حدث فى عصر السادات من هبات شعبية متعددة ، فتعلم درس أن الكبت يولد الانفجار ، و أن بعض التنفيس يحقق مبدأ ( خليهم يتسلوا ) إلى جانب أن بعضا ممن تولوا رئاسة الرقابة كانوا من الذكاء بحيث لم يصطدموا بالمبدعين بل صرحوا بأفلام أو مسرحيات سياسية معارضة و تحملوا مسئوليتها أمام الدولة مثل الأستاذة نعيمة حمدى ، و الناقد الكبير على أبو شادى الذى استطاع إقامة جسور طيبة بين السلطة و الإبداع ، بتوسيع هامش الديمقراطية ، لذا كانت له محبة و مكانة خاصة عند كل المبدعين .
و برغم الهامش المتسع فى عصر مبارك و الذى أدى لبقائه 30 عاما ، إلا أن الخطوط الحمراء زادت و تعددت ، و بات المبدع لا يأمن أن يقدم عملا دون مشاكل ، ذلك أن مصر قد اخترعت نظرية جديدة فى الرقابة ، فإذا كان الناقد و الاستاذ الاكاديمى البريطانى “رونان ماكدونالد” قد أعلن موت الناقد ، بسبب انتشار وسائل التواصل و النشر الإلكترونى ، مما يتيح لأى شخص الكتابة عن الأعمال الفنية و الإبداعية بحيث تلاشى دور الناقد الأكاديمى المتخصص و حل محله شخص غير متخصص ، فإن مصر قد تفردت بنظرية جديدة هى ( موت الرقيب ) حيث حل محله أى شخص أو مؤسسة أو جماعة ضغط أو حتى مجرد مجموعة أصدقاء على صفحات التواصل ، و لا قيمة هنا للتخصص على الإطلاق .
بدأت تلك النظرية تتكون مع ظهور التيار المتأسلم ، الذى تولى حمايته و تدعيمه نظام السادات حيث تبنى هذا التيار أسلوب مطاردة المختلفين معه أيدلوجيا و مارس دورا رقابيا ليس على الإبداع فقط و إنما على كل مناحى الحياة بما فيها الملابس و طريقة إلقاء السلام ، و حتى ترتيب جلوس الشباب و الفتيات فى مدرجات الجامعة !!
و مع اختفاء السادات و عصره ، ركز هذا التيار على رقابة الإبداع و قمع أصحاب الفكر المستنير ، مستخدما قضايا الحسبة ، فرأينا قضايا بسبب أفلام ( للحب قصة أخيرة و المهاجر ) أو كتابات ( الدكتور نصر حامد ابو زيد ، خالد منتصر ، إسلام البحيرى ، نوال السعداوى ، فاطمة ناعوت ، أحمد ناجى ) حتى نادى المبدعون و المثقفون بوقف قضايا الحسبة التى تخصص بها بعض المشايخ ( يوسف البدرى مثالا ) و بعض المحامين ، و لكن اتسعت أعداد القضايا بزيادة أعداد الباحثين عن الشهرة الذين نصبوا أنفسهم رقباء حتى على محتوى الفضاء الالكترونى مثل القضايا التى رفعت مؤخرا على العديد من فتيات التيك توك تحت اسم ( خلوها تنضف ) و التى انتهت معظمها بالبراءة !!!!
وهناك جهات رسمية أوكل لها القانون جزءا رقابيا لكنها توسعت فى استخدام سلطاتها . فعلى سبيل المثال لا ينص قانون الرقابة على أخذ موافقة الأزهر على تقديم الأعمال الفنية ، بل عليه مراجعة الآيات أو الأحاديث لو وردت فى سياق العمل الفنى ، لكن الأزهر منع أعمالا بسبب موقفه من ظهور الشخصيات الدينية ، مما جعل بلادا كنا نتهمها بالتشدد و الانغلاق تسبقنا الى عرض الفيلم العالمى “الرسالة” بينما مازال ممنوعا فى مصر !! ، بل زادت عليه بأن أنتجت أعمالا ، أظهرت من آل البيت : الحسن و الحسين ، و من الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب فى مسلسلات أسعدت الملايين و دعت إلى الإسلام الحق ، بينما مازلنا منذ السبعينات نرفض ظهور الحسين على المسرح ( بل يقال إنه تم إبعاد أحد وزراء الثقافة بسبب سلسلة صدامات بينه و بين الأزهر كان آخرها حديثه فى احتفال عام عن منع الأزهر تقديم مسرحية الحسين على المسرح القومى مما جعل مندوب المشيخة ينسحب من الاحتفال ) .
و إذا كنا لا نستطيع أن نتحدث عن الأزهر إلا بكل الحب و الاحترام تقديرا لدوره فى مناحى أخرى ، فليس لدينا سبب للتغاضى عن تعدد الأجهزة التى صنعت لنفسها دورا رقابيا مثل نقابة الإعلاميين التى من المفترض متابعتها للأداء الإعلامى من أجل ضمان الالتزام بميثاق الشرف الإعلامى ، و لكنها أصبحت جهاز رقابة يعاقب أعضاؤه ، و مثل المجلس الأعلى للاعلام الذى اختصر مهامه فى رقابة الألفاظ و التدخين فى المسلسلات و ترك مهامة الأخرى و هى الأهم و الأنفع و الأجدر به ، بل ساهم أحد أعضائه فى حبس مبدع تحت دعوى قداسة أحدى محطات الإذاعة !!
و خوفا من أنه قد أصبح خلف كل حجر رقيب ، يستطيع أن يكتب على الفيس بوك – مثلا – منددا بأى شيئ و أى شخص ، و يدعى أن هناك من يعبث بأمن الوطن متسائلا أين الرقابة ؟ فقد اتخذت الرقابة حاليا موقفا متشددا عن ذى قبل ، ففى سنوات سابقة كانت العروض داخل الجامعة و عروض الهواة التى تعرض ليوم واحد لا يشترط أن تحصل على موافقة الرقابة ، و لذلك لجأ البعض فى عصر السادات إلى مسارح الهواة ( مثل الجامعة و المسرح العمالى ) لتقديم النصوص الممنوعة ، فامتلأت الجامعة و المسرح العمالى بالعروض الساخنة . أما الآن فالأمر مختلف ، فالقوانين تطبق حاليا و بكل شدة على الجميع محترفين و هواة ، حتى عروض نوادى المسرح بالثقافة الجماهيرية و التى تشاهدها لجنة متخصصة قبل إنتاجها و تقدم داخل مسابقات ليوم واحد و غالبا لا يحضرها الجمهور العادى أصبحت ملزمة بالحصول على موافقة رقابية !
و فيما سبق كان بالإمكان تقديم نص سبق إجازته رقابيا ، أما حاليا فيصر جهاز الرقابة على إعادة الترخيص كل عام خوفا من أى تغيرات سياسية تجعل الجهاز يمنع ما صرح به من قبل . و فى هذا خطأ فى تطبيق قانون الرقابة الذى ينص على أن الترخيص يسري لمدة (سنة) من تاريخ صدوره بالنسبة إلى التصوير أو التسجيل ، ولمدة (عشر سنوات) بالنسبة إلى العرض أو التأدية أو الإذاعة ، و كل هذا التغير و التحوط تم بعد ادعاء شخص أن عرضا مسرحيا للهواة تم تقديمه داخل نادى تضمن إساءة لقواتنا المسلحة ، و جاهد جهاز الرقابة فى إثبات أن العرض تم تقديمه دون تصريح منه ، و لم يجاهد فى إثبات أن العرض تضمن إساءة أم لا !!
و هكذا تحولنا إلى مجتمع من الرقباء : فبعض أفراد من الإعلام و النقابات و المجالس العليا و النوادى و المحامين و الشيوخ و أعضاء المجالس النيابية ، و كثير من المواطنين ينتهكون دور الرقابة بتنصيب أنفسهم رقباء ، معلنين أن الرقابة لا تقوم بدورها ، فحاولت الرقابة أن تثبت جدارتها ، و النتيجة ليست فى صالح المبدعين و لا فى صالح الدولة ، فالحرية هى زاد الإبداع و الأحرار هم من يبنون الأوطان .
و للحديث بقية ..