الحيطة المايلة (2) .. ثقافة بـ 2 جنيه
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
تحملت وزارة الثقافة وحدها مسئولية الإخفاق فى مواجهة زيادة نسب الطلاق و التحرش و التنمر و الإلحاد و الشذوذ و المخدرات و الانتحار فى حديث السادة النواب بمجلسهم الموقر ، و حتى لا تفوتهم فائته أضافوا لما سبق ( و كل الظواهر المستحدثة ) أى كل الكوارث القادمة أيضا ، ثم أضاف السيد وكيل المجلس وجها جديدا من أوجه القصور ، و هو عجز الوزارة عن تدبير نفقات علاج كبار الكتاب و المثقفين الذين تضطرهم ظروف المرض إلى طلب العون ، و أبدى شديد استيائه من استجداء هؤلاء للعلاج بينما الوزارة تقف مكتوفة الأيدى ، و فات السيد الوكيل أن وزارة الثقافة لا تستطيع إنشاء صندوق للمساعدات إلا بقانون يصدر عن المجلس الذى هو وكيله ، فلماذا لم يتقدم باقتراح إنشاء مثل هذا الصندوق بدلا من البكاء على حال مرضى المبدعين ؟
الحقيقة أن الوزارة – على مر عصورها و وزرائها – فشلت فى انشاء مثل هذا الصندوق لاحتياجه إلى تشريع و قوانين منظمة لعمله ، و لذا ظلت مسألة العلاج المجانى متعلقة بقدرات الوزير و اتصالاته و مدى تأثيره على وزارة الصحة – أو جهات أخرى كالقوات المسلحة – لعلاج المبدعين ، و الحقيقة أيضا أنه ما من وزير للثقافة تأخر عن مد يد العون ، و لكن الاعتماد على قدرات و اتصالات الوزير وحدها لا تكفى ، و بالفعل لابد من إنشاء صندوق للعلاج و الإغاثات العاجلة ، و نتمنى أن يقوم السيد وكيل المجلس بتبنى ذلك المشروع ، و ياريت – بالمرة – يسعى السيد الوكيل إلى تدبير التمويل لهذا الصندوق ، فميزانية وزارة الثقافة لا تحتمل ، إذ أنها لا تتعدى نسبة 3 % فقط من ميزانية قطاع الشباب و الثقافة و الشئون الدينية فى الموازنة العامة للدولة ، فالمخصص للقطاع بالكامل 48 مليار و 395 مليون جنيه ، تحصل وزارة الثقافة منها على مليار و نصف المليار فقط ، يذهب 90 % منها لبند المرتبات و الحوافز و مكافآت الموظفين الذى يزيد عددهم عن 40 ألف موظف ، و 10 % فقط للصرف على الانشطة ( حسب تصريح السيد مستشار وزير الثقافة ) و بالتالى فنصيب المواطن المصرى فى العام أقل من 2 جنيه ثقافة ( يأخدهم كتب ، يأخدهم مسرح ، يأخدهم ندوات أو أمسيات شعرية ، يأخدهم معارض فن تشكيلى ، يأخدهم متاحف ، يأخدهم موسيقى أو أوبرا أو فنون شعبية ، هو حر !! )
أما فى إطار جهود مكافحة الارهاب و نبذ التطرف – حسب بيان الدكتورة إيناس عبد الدايم امام مجلس النواب – فلقد قامت وزارة الثقافة بتنفيذ نحو 712 نشاطا متنوعا خلال سنوات 2018 إلى 2020 بتكلفة 96 مليون جنيه ( أى بمتوسط 32 مليون جنيه سنويا ) ، و بذا يصبح متوسط نصيب المواطن 32 قرش فى العام . و بناء عليه فلا يصح أن نتكلم عن مواجهة الارهاب ، أو أيا من القائمة الطويلة التى ذكرها السادة النواب .
و لكن البعض يعترض على طريقة الحساب هذه ، و يقول أن الأنشطة جماعية و لا يصح أن ننظر لمخصص الفرد الواحد على طريقة ( كل واحد نصيبه كام ) و لهذا دعونا نتبع طريقة أخرى بأن ندقق ميزانية أحد أنشطة الوزارة ، لنرى الأمر بشكل واقعى ، و ليكن المسرح مثلا :
تبلغ ميزانية البيت الفنى للمسرح ( المسئول عن المسرح فى العاصمة و من المفترض أن يتجول فى الاقاليم ) حوالى 80 مليون جنيه ، مخصص للإنتاج 8 مليون فقط ، يتم توزيعها على 10 فرق ، ثم أضيفت لهما فرقتين مؤخرا لتصبح عدد الفرق 12 فرقة ، و المطلوب إنتاج مسرحيات بهذه الميزانية لكل هذه الفرق لمدة عام كامل ، فإذا قدمت كل فرقة عملين فى الموسم الصيفى و مثلهما فى الموسم الشتوى فأنت أمام 48 مسرحية من المفترض أن تغطى بهذا المبلغ جميع تكاليف الإنتاج من أجور مؤلفين و مخرجين و نجوم من الخارج ( من غير الموظفين ) و كتاب أغانى و ملحنين و عازفين و راقصين و مصممى ديكور و منفذين ، عدا ثمن الخامات من أخشاب و أقمشه و دهانات لعمل الديكور و الملابس و الماكياج ، و فوق كل هذا الدعاية للمسرحيات فى الشوارع و الجرائد و قنوات التليفزيون ! ، فإذا علمنا أن المسرحيات الضخمة تصل تكلفتها إلى مليون جنيه لتقدم لمدة شهر واحد فقط و المسرحية الصغيرة تتعدى 250 ألف جنيه، فعن أى نشاط مسرحى نتحدث ؟
و مع ذلك حاول البيت الفنى للمسرح تدبير أموره و لكن .. نتاجا لتحرير سعر صرف الدولار فى 2016 ارتفعت أثمان الخامات لثلاثة أمثالها ، فى حين أن الميزانيات لم تزد و ظلت كما هى ، و مع ثبات الميزانيات ، و مع زيادة أسعار الإعلان و رفع قيمة الضرائب عليها ، تم الاستغناء عن بند الدعاية – توفيرا للنفقات – فأصبحت المسرحيات سرية لا يعلم بها أحد إلا عن طريق وسائل التواصل ، بمجهودات معظمها فردية .
و إذا تساءلنا عن إيرادات المسارح و إلى أين تذهب ، سنجد أنها تذهب بالكامل لوزارة المالية ، و فيما سبق من سنوات كان هناك قرار لوزير المالية يتم بمقتضاه إعادة 90% من الإيرادات التى يحققها البيت الفنى للمسرح ( فيما يسمى بتعزيز الميزانية ) لينفقها على إنتاج جديد كى يستمر الموسم المسرحى ، الذى عادة ما تنتهى ميزانيته فى الأشهر الستة الأولى من العام المالى ، و لكن تم إلغاء هذا القرار منذ سنوات طوال و أصبح ( تعزيز الميزانية ) يخضع لتقديرات وزارة المالية و ليس لاحتياجات المسارح الفعلية .
و كانت النتيجة لكل هذه الظروف أن تقلص الإنتاج المسرحى و خلت بعض المسارح من العروض لفترات طويلة ، حتى أنه فى أحد السنوات انتهى الموسم المسرحى فى يناير ، بعد أن كان ينتهى عادة فى أبريل من كل عام .
و إذا نظرنا الى الجانب الأكبر من الميزانية و هو مرتبات الموظفين و مخصصاتهم المالية و فكرنا فى تقليصها فلن نستطيع ، ليس فقط بحكم القانون الذى يمنع التخلص من العمالة و لكن لأنه هناك احتياج حقيقى لبعضها ، فهؤلاء الموظفين ينقسمون لعدة فئات : الأولى فنانون و متخصصون فى العمل الثقافى أو خبراء أو منشطين ثقافيين أو قادة للعمل الثقافى و هؤلاء لا تتعدى نسبتهم من 15 إلى 20 % . و الفئة الثانية عمالة فنية عددها ضئيل لا يفى بحاجة العمل و للأسف فى سبيلها إلى الانقراض . أما الفئة الثالثة و هى الأكبر فهى الوظائف الإدارية و المالية اللازمة لتسيير العمل ، و للحق فإنها فى معظم مواقع الوزارة أكبر و أضخم مما يجب ، و فى بعض الأماكن تبلغ الضخامة حدا غير معقول . و تلك أزمة قديمة ربما قدم الوزارة نفسها ، و ساعد على تفاقمها قبل الثورة نواب مجلس الشعب – و خاصة نواب الإخوان – فقد كانت وزارة الثقافة ملجأ لهم لتعيين الأقارب و المناصرين ، أما بعد الثورة – و نتيجة للمظاهرات الفئوية – فقد تم تعيين عدد كبير من الموظفين دون الحاجة إلى معظمهم ، و هكذا تسير الوزارة بجهاز إدارى مشوه يترهل فى بعض الأماكن ، و لديه قصور فى أماكن أخرى و فى تخصصات أهم و أقرب لمهام الوزارة .
أليست هناك حلول ؟
فى الحقيقة كان الوزير الأسبق فاروق حسنى سباقا فى محاولة حل مشاكل ميزانية الوزارة – برغم أنها لم تكن متفاقمة مثل الآن – فلقد انشأ عام 1989 كيانا يسمى ( صندوق التنمية الثقافية ) و جعله ذو طبيعة خاصة ، بحيث يتحرر من كثير من التعقيدات البيروقراطية و اللوائح و القوانين العتيقة ، و كان التمويل الرئيسى للصندوق 10 % من حصيلة إيرادات الأماكن الأثرية و المتاحف ، ليصبح شريكا أساسيا فى نشاط الوزارة – بما يملك من أموال و قدرة على التنفيذ و حرية فى الحركة – فى كثير من مشروعات البنية الأساسية كإنشاء المكتبات ، و فى تمويل المهرجانات الفنية و المؤتمرات و الندوات الفكرية و تحويل الأماكن الأثرية إلى مراكز إبداع و تقديم الدعم للجهات الأهلية ذات الأنشطة الثقافية . و مع فصل الآثار عن الثقافة و إنشاء وزارة لها انقطع دعم الصندوق ، و خسرت الوزارة مصدرا هاما للتمويل يساهم فى سد عجز تمويلها القاصر عن تحقيق أهدافها .
و برغم أن كثير من وزراء الثقافة فى فترة ما بعد ثورة يناير أعلنوا أن الميزانيات لا تكفى ، و أن توقف تمويل صندوق التنمية أضاف أعباء على ميزانية الوزارة إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تستجب و تعيد نسبة إيرادات الآثار المساهمة فى الصندوق أو توفر تمويلا بديلا . و الآن تحول الصندوق إلى قطاع من قطاعات الوزارة و فقد ميزاته الأساسية إلى جانب تمويله .
و برغم أن كل الشواهد و القرائن تثبت أن مشكلة الوزارة و أسباب قصورها تكمن فى ضعف الميزانيات ، إلا أنه هناك صوت مختلف يقول العكس ، إنه الدكتور عبد الواحد النبوى وزير الثقافة الأسبق الذى أقر أثناء وجوده بالوزارة فى تصريحات صحفية بأن ميزانية الوزارة لا تكفى لمواجهة الفكر المتطرف ، إلا أنه بعد خروجه من الوزارة يقول – بنص حديثه – فى جريدة الوطن : ( القول إن وزارة الثقافة ذات ميزانية محدودة كلام عار تمام من الصحة ، وحين توليتها كان يتبقى أيام على انتهاء السنة المالية ( تولى فى مارس و السنة تنتهى بنهاية يونيو ) ولم ننفق الميزانية المخصصة لها لإدارة العمل الثقافى كاملة ، ففى كثير من الأحيان يوجد فائض فى الميزانية كبير، بالرغم من حاجة بعض الهيئات والمؤسسات إلى ميزانية كبيرة لتنفيذ الكثير من المشروعات ، فنحن لدينا أزمة كبيرة فى كيفية إدارة الميزانية ، وما زالت مصر تعانى من هذه الأزمة حتى الآن .
ربما لتغيير الوزير الأسبق لرأيه بعد الخروج من الوزارة دلالة هامة و مؤشر على أحد مشكلات الثقافة فى مصر ، لكن ما يعنينا الآن ما قاله عن ( الفائض الكبير و أزمة إدارة الميزانية ) .
و لهذا حديث آخر ..