أحزان أهل الفن
بقلم : محمود حسونة
انطفأت شمس ٢٠٢٠ بعد أن عاشت خلاله البشرية حالة من الخوف والقلق غير مسبوقة، وأصبحت الإنسانية ترتاب في بعضها وكل إنسان يشك في إصابة كل من يتعامل معهم بوباء كورونا حتى يثبت العكس، وهروباً من الفيروس الذي لاحق الناس في كل مكان، لم يجد الناس الأمان سوى في البيوت التي التزمها الكثيرون سواء بشكل إجباري نتيجة الإصابة أو تنفيذاً لقرارات سيادية، أو بشكل إختياري بهدف الوقاية من هذا الغير مرئي الذي طاردنا وحدد إقامتنا وكمم أفواهنا ونشر رائحة الكحول في شوارعنا والخل في بيوتنا، وأطفأ أضواء البهجة والفرحة في الحياة وفرض الزواج والدفن من دون مراسم احتفال أو عزاء.
رحل عام الوجع الإنساني والانهيار الاقتصادي، رحل بعد أن ألقى بظلاله على مختلف مجالات الحياة، ولعل أكثرها تأثراً به هي مجالات الإبداع الجماعي من سينما ومسرح ودراما وغناء، حيث أطفئت شاشات السينما وأسدلت المسارح ستاراتها.
٢٠٢٠ كان بالنسبة للفن عام الكساد، ولأهله عام الخوف من كورونا والقلق من المجهول والحزن نتيجة رحيل عدد غير مسبوق من الفنانين تجاوزوا الـ ٦٠ فناناً عربياً، إبتداءً من الفنانة ماجدة الصباحي ومروراً بنادية لطفي وجورج سيدهم وإبراهيم نصر وحسن حسني وشويكار والمنتصر بالله وسناء شافع ومحمود رضا وسمير الاسكندراني ومحمود ياسين، وهؤلاء الفنانين الذين أثروا حياتنا بأعمال ساهمت في تشكيل وجدان أجيال وأجيال، رحلوا لأسباب مرضية مختلفة، وبينهم من عانى طويلاً من آلام المرض، ومن عانى جمهوره ومحبيه من أوجاع رحيله المفاجىء.
هؤلاء نماذج من الراحلين في عام ٢٠٢٠، وكأنه لم يكفه خسارتنا لهؤلاء ليباغتنا بجائحة كورونا التي حصدت هي الأخرى عدداً من الفنانين والمبدعين على المستوى العربي والعالمي، وتصدرتهم رجاء الجداوي التي لم يقبل محبوها أن ترحل في صمت، ورغم الإجراءات الاحترازية التي فرضها الوباء حرص كثيرون على حضور تشييعها وإلقاء النظرة الأخيرة على النعش تقديراً لرحلة عطائها وأياديها البيضاء التي تركت آثاراً إيجابية على حياة الكثيرين من دون ضجيج؛ ومن الراحلين أيضا بكورونا الفنانون فايق عزب واللبناني جان صليبا والسوري طوني موسى والمغربي محمد الإدريسي والجزائري حمدي البناي وآخرهم الكاتب والناقد والسينارست المغربي نور الدين صايل صاحب الدور الرائد في نشر الثقافة السينمائية في المملكة المغربية.
أصر عام ٢٠٢٠ أن يظل يفاجئنا بما يحزن ويدمي حتى أيامه الأخيرة، وقبل أن يغادرنا أخذ معه المخرج السوري الكبير (حاتم علي) الذي أبكى رحيله أهل الفن على امتداد العالم العربي، والذي فاجأ الجميع انسحابه من الحياة بطريقة تراجيدية غير متوقعة، حيث تم العثور عليه ميتاً في غرفته بأحد فنادق القاهرة وقال تقرير الطب الشرعي أنه نتيجة سكتة قلبية.
ولعل (حاتم علي) ابن الجولان المحتل كان الفنان الأكثر إيماناً بالدروس التي يحملها تاريخنا والتي يجب أن نتعلم منها ونعلمها لأولادنا، وهو الأكثر نبشاً في صفحات التاريخ سواء في بداياته وهو محترف للكتابة المسرحية والقصصية والدرامية بعد تخرجه من معهد المسرح في دمشق، أو بعد أن أخذه عالم الإخراج وأصبح من المخرجين القلائل الذين تعتبر أسماءهم على أي عمل فني علامة جودته وضمان تميزه.
حاتم علي صال وجال في التاريخ العربي ليطلعنا على بعض صفحاته سواء التي تعبر عن عز ومجد أمتنا أو التي تسلط الضوء على خيباتها وسقطاتها، ولا شك أن الانتقاء من التاريخ لا يكون اعتباطياً ولكنه يعبر عن مواقف ومبادئ وقناعات المنتقي، ومن يتأمل عناوين أعمال حاتم التاريخية يدرك كم كان هذا الفنان عاشقاً لأمته ومتيماً بعروبتها، وذلك إبتداءً من (الزير سالم) الذي تم تناوله مسرحياً وفنياً بأشكال مختلفة، ولكن نسخة ورؤية حاتم علي كان لها مذاق مختلف، ورغم مرور ٢٠ عاماً على انتاجه وعرضه، إلا أنه وبمجرد إعلان وفاة مخرجه حتى ملأ الناس مواقع التواصل بمشاهده التي تعبر عن قيم المجتمع العربي الأصلية.
ومهما مرت سنوات وأيام لن ينسى المصريون مسلسل (الملك فاروق) الذي قدمه حاتم علي عن قصة وسيناريو وحوار الدكتورة لميس جابر والذي قدم شخصية الملك بصورة مغايرة عن الصورة التي روج لها الإعلام والتعليم على مدار أكثر من نصف قرن، وأيضاً مسلسل (الفاروق عمر) عن حياة الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وفيه حطم قيد عدم تجسيد شخصيات صحابة رسول الله لنراهم امامنا يتحركون ويتحدثون ويتركون تأثيراتهم على المشاهدين.
خلال حياته القصيرة (٥٨عاماً) قدم حاتم علي الكثير والكثير من الأعمال التي ستظل يتداولها الناس، لأنها لا تشبه غيرها من الأعمال، فلا يمكن أن ينسى الناس “التغريبة الفلسطينية” ولا “صلاح الدين الأيوبي” ولا “أمراء الطوائف” ولا “ربيع قرطبة” ولا “صقر قريش” ولا غيرها من الأعمال التي أحيت صفحات ومعارك وشخصيات تاريخية.
لم يكتف ٢٠٢٠ بأن ينثر على الفن وأهله دموع الفراق وتعبيرات الحزن، ولكن وباءه أصاب عدداً من الفنانين والإعلاميين خلال أيامه الأخيرة ولا يزالون يعانون الآلام، والسبب تجمع قطاع منهم في عيد ميلاد أو عدم حذر الإعلاميين الذي ينبغي أن يعلموا الناس الحذر، ونتمنى أن تشهد الأيام القادمة شفاءهم والتزام الجميع بالاجراءات الاحترازية.
كان ٢٠٢٠ العام الأصعب وقد ترك بصماته التي ستغير معايير وأنماط الفن في المستقبل، بعد أن أخرس قاعات السينما والمسرح وأفرغ التليفزيون من جوهره، وانتشرت البرامج التي يحدث فيها المذيعون أنفسهم بعد أن فرض كورونا عليهم الاكتفاء بمحاورة ضيوفهم عبر الاتصال والفيديو وعدم استضافتهم في الاستديو، ومنح المنصات الاليكترونية فرصة التسيد على السينما والتليفزيون.
mahmoudhassouna2020@gmail.com