“السينما التى أفسدت نجيب محفوظ”
بقلم : محمد شمروخ
قدم نجيب محفوظ للسينما باقة من رواياته المكتوبة لتحويلها إلى أفلام، كما قام هو نفسه بتأليف أفلام كسناريست محترف يحمل كارنيه ممهورا بخاتم وزارة الثقافة بهذا المسمى الوظيفي، ولكن هناك أعمال سينمائية له تم عرضها ولكن دون أن يصدرها في روايات مطبوعة لأسباب تعود إليه.
كما شارك في كتابة السيناريو والحوار أيضا مع غيره لأعمال لم يؤلف قصصها، وكما هو معروف عن نجيب محفوظ فإنه كان يترك للسيناريست والمخرج حرية التصرف في النص الروائى الذي قام بتأليفه من منطلق منطق مقبول ممن لهم خبرة بالعمل السينمائي من الأدباء بأن إنتاج السينما غير إنتاج الورق، فإمكانات الواقع من المكان والزمان والصورة والصوت والحوار والديكور بالإضافة إلى عوامل أخرى أهمها أن السينما أساساً تجارة في موازاة الفن، وغالبا إذا ما تعارض الفن والإبداع مع الإنتاج والتجارة فالغلبة العالية ستكون للآخيرين لاعتبارات السوق التى تحكم كل شيء في النهاية.
ثم إن هناك عوامل من شأنها أن تحول مجرى العمل جوهريا كالرقابة بأنواعها الرسمية والعرفية ولا يمكن تجاهل رغبات الجمهور، وفي النهاية المكسب هو جوهر العملية وغايتها ولا غرابة ولا عيب في ذلك لأن السينما صناعة اقتصادية بالدرجة الأولى.
أما المؤلف الروائي فعندما يكتب لإصدار رواية مطبوعة فلا يزيد على أن يجلس على مكتبه ويقرر بنفسه ولنفسه بأن يكون أكثر حرية وأكثر لذة وأكثر استماعا بما سيكتبه، فخياله طليق وأفكاره حرة والأوراق البيضاء ممهدة أمامه ليسلك طريق إبداعه كيف شاء فلا رقابة ولا منتج ولا شباك إيرادات.
ومع ذلك فقد جاءت بعض أفلام روايات لنجيب محفوظ معبرة بشكل كبير عن الفكرة التى أرادها في رواياته حتى لو اختلفت في بعض التفاصيل، مثال ذلك أول فيلم أنتج عن عمل له وكان عام ١٩٦٠ “بداية ونهاية”، عن روايته الرائعة التى صدرت تحمل العنوان نفسه قبل الفيلم بإحدى عشر سنة، والفيلم لم يخرج عن الرواية روما ونصا ولكن هناك كثير من التفاصيل والأحداث والأفكار التى سطرها نجيب في أوراق روايته المطبوعة لم يتناولها الفيلم لكن على أي حال – بالنسبة لي شخصيا – فالرواية أكثر إبداعا وتعبيرا عن الشخصيات التى تناولها نجيب باقتدار طبيب جراح متمكن غاص بمشرطه الدقيق لا في نفوس شخصياته فقط، ولكن في النفس الإنسانية كلها وفي ثنايا طبقات المجتمع المصري سواء في الشارع أو في الحارة أو الماخور أو القصر.
هذا لا يمنع أننى اتوقف مشدوها أمام إبداع تجسيد أبطال الفيلم وهم من أساطين السينما المصرية والعربية والذين وقفوا بالفيلم على أعتاب العالمية التى لم يتوغل فيها منهم غير عمر الشريف بالرغم من أن سناء جميل حازت على المركز الثالث كأحسن ممثلة في مهرجان دولى في روسيا، ولكن مع كل ذلك فالإبداع المحفوظي أروع على الورق، فالفيلم بالإضافة إلى ما أسلفت شارك فيه كل من المخرج والسينارست وطاقم العمل من صوت وموسيقى وأضاءة وديكور وفوق ذلك الممثلون في الإبداع أيضا مع محفوظ.
أما رائعة “القاهرة الجديدة” فقد تحولت إلى فيلم أيضا ولكن تحت اسم “القاهرة ٣٠”، لكن الرواية المطبوعة أكثر عمقا وأوسع أحداثا وأعمق تحليلا سواء للشخصيات الرئيسية في الرواية أو لأوضاع المجتمع المصري في عاصمة البلاد التى تحمل ملامح المجتمع الرئيسية، وتبدو كالشمس التى تدور في فلكها بقية المدن والأقاليم في البلاد المصرية.
وهذه الرواية التى سبقت ولادتها الورقية “بداية ونهاية” بأربعة أعوام وصدرت طبعتها الأولى تحت اسم “فضيحة في القاهرة”، ثم أعيد طبعها تحت عنوان “القاهرة الجديدة”، وهى أول محطة نزل فيها محفوظ للواقعية وكانت عن معشوقته الأبدية “القاهرة” التى كانت مهدا لأحلام ومسرح مآسى أبطال روايته تلك من طلبة جامعيين يعيشون في سكن طلابي يجمع مختلف الانتماءات الأيدلوجية والسياسية والاجتماعية والإقليمية، والرواية أيضا أكثر إبداعا من الفيلم الذي لا يقلل من قيمته ما أقرره هنا حسب ذائقتى، لكن الفيلم بسبب نجاحه وتعلق الجماهير به بعد إنتاجه وعرضه في عام ١٩٦٦، لكنه صار أكثر شهرة وتأثيرا من الرواية المطبوعة حتى اضطر الناشر “على ما أظن” أن يضع على الغلاف عنوانا صغيرا ببنط أصغر ولون مختلف اسم الفيلم”القاهرة ٣٠” تحت عنوان الرواية “القاهرة الجديدة”، حتى يلفت نظر القراء الذين تعلقوا بالفيلم.
ولا أنكر أننى عندما اشتريت النسخة الأولى للرواية في منتصف الثمانينات من مكتبة دار المعارف بمدينة قنا عندما كنت في المرحلة الثانوية قد لفت انتباهى العنوان ذو البنط الصغير الذي كنت أعرفه عز المعرفة وظننت أننى عندما سافتح الصفحات للقراءة ستخرج منها إحسان شحاتة مع محجوب عبد الدايم مع فهمي باشا، ولكن وجدت هناك إبداعا من نوع آخر أكثر روعة
الأمر تكرر في “اللص والكلاب”، ولكن هناك قدر هائل من النجاح في تلك الأفلام
غير أنى – اختصارا – أقرر أن هناك روائع لنجيب محفوظ لم تهضمها السينما وعجزت عن أن تعكس حقيقتها أو شيئاً كبيرا من تلك الحقيقة، فهناك أفلام تمنيت ألا تكون خرجت للشاشة تحمل اسم رواية من روايته، مثل تلك الجريمة السينمائية التى ارتكبت في حق رواية “الحب تحت المطر” أو الجنحة المخلة بحق رواية “ثرثرة فوق النيل”.
هذا وكانت سلسلة أفلام الحرافيش تحتاج إلى لجان رأفة لتحصل على الحد الأدنى من الدرجة الصغرى، ولكنها الراسب والباقى للإعاظة منها كان أكثر من الناجح على الحركرك.
أما روايات مثل “السمان والخريف، قلب الليل، السراب والشحاذ” فقد حازت ما بين المقبول والجيد، أما الثلاثية وهى أشهر أعماله الروائية والسينمائية عموما فقد حاز السبق فيها الفيلم الأول “بين القصرين”، وهو مازال الأكثر قربا لقلوب الجماهير – وأنا منهم بالطبع – لكن على أي حال لم تكن الثلاثية على روعتها هي أكثر روائع نجيب جمالا، فهناك روايات تتقدمها بكثير، ومنها روايات لم تنجح أفلامها جماهيريا لصعوبة تجسيد المعانى في فترة الارتقاء المحفوظى إلى “المافوقيات” التى يصعب التعبير عنها سينمائيا، وأعتقد أن هذا سبب انسحاب روايتين كـ “قلب الليل، والشحاذ” من اهتمامات مشاهد السينما لا بسبب تهافت عقلية المشاهد لا سمح الله، ولكن لأن تلك المعانى المافوقية في تلك المرحلة التجريبية تعجز عنها صناعة السينما فتبقى في الأوراق أكثر روعة مثل كل روايات ابن القاهرة الشرعي.
ويبقى أن ننزع محفوظ من السينما حتى لو عشقها هو وعشقناها نحن، فقد أضرت الشاشات البيضاء بكبير الرواية العربية حتى أنها ارتكبت الحماقة نفسها التى لا نفتأ نحن القراء عن ارتكابها بانتظام، وهي أننا اختزلنا محفوظ في الثلاثية واختزلنا الثلاثية في فيلم بين القصرين واختزلنا بين القصرين في:
الحلو مخاصمنى
شاهدة يا أمه
قولي له يا أمه
“يسامحنا” يا أمه.
رؤية عظيمة للعمل الأدبي إذا تحول إلى عمل سينمائى ، ففلسفة الكاتب وفكره مستحيل أن تنقلها الكاميرا، بل إن الوصف لابطال القصة يكون مطلقا في الكتاب، تحجمه ملامح الممثلين وأداؤهم. مقال رائع