حكايتى مع ديزنى (20) .. نصيحة رجل عجوز
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
فى حياة كل منا أشخاص نعتبر وجودهم حتمياً ، و قاعدة مسلم بها و كأنها من بديهيات الحياة ، و إذا شاء القدر و غابوا عن حياتنا فإنهم يتركون فراغاً من الصعب قبوله ، و جرحاً أعمق من قدرتنا على الشفاء . و لا يمكن أن يصل شخص لهذه المنزلة إلا بكثير من العطاء و المحبة غير المشروطة ، التى تتمثل فى كثير من المواقف النبيلة التى لا تنتظر مقابل .
هكذا كان عم عبد الرحمن شوقى بالنسبة لى ، أخ أكبر و صديق و أستاذ و معلم و كتف قوى أستند عليه وقت الحاجة ، كل هذا بلا مقابل أو شروط ، و كأن الله أرسل لك ملاكاً حارساً يرعاك و يساندك و يحميك ، فتشكر الرحمن على وجوده فى حياتك ، و تمضى قُدماً و أنت لا تتخيل أنه يوما سيغيب أو أنك يوما ستفقده ، غير مدرك أنها سنة الحياة و قانون الأزل : ” دور يروح و دور يجيئ و الأرض باقية “
التقينا للمرة الأولى فى أواخر السبعينات عندما ساعدت أستاذى حسن عبد السلام فى مسرحية “مين مايحبش زوبة ” من تأليف “عم عبد الرحمن أو عمنا” – كما كان الكل يناديه – برغم أن سنه الحقيقى أصغر من هذا بكثير ، و لكن ربما ضخامة الجسم و البياض الشديد فى الوجه و الشعر الأصفر الذى يميل للبياض منذ صغره أضافوا له مهابة جعلت الجميع يتعامل معه باحترام شديد ، بالإضافة الى الهدوء و العقلانية فى التصرف ، كل هذا كرّس له موقع العم.
و عندما تقرر تقديم المسرحية خارج مصر سافر هو و مدير الفرقة – و أنا معهم – للتحضير للعرض و استكمال التجهيزات من ديكور و إضاءة . و فوجئت بعد اليوم الأول – الذى زرنا فيه المسرح الذى سنعرض عليه و لقائى بمنفذى الديكور – بأنه لا يتركنى أبداً و يتابع عملى بدقة متناهية ، و بعد الانتهاء من ليلة العرض الأولى استدعتنى صاحبة الفرقة لتقول لى أن عم عبد الرحمن قرر زيادة أجرى ، لحظتها فقط علمت أنه شريك فى الإنتاج .
و منذ ذلك اليوم لم نفترق – برغم أننا مختلفين فى أشياء كثيرة بدءاً من السياسة نهاية بالكرة – سافرنا سويا داخل مصر و خارجها و كل مرة تحدث لنا ذكريات لا يمكن أن تُنسى ، ففى طريق العودة من الإسكندرية – فى أحد المرات – تعطلت بنا السيارة لنقضى أكثر من 6 ساعات نزلنا فيها الى أحد الغيطان نبحث عن ماء فكدنا نغرق فيه !!! ، و فى مرة أخرى اشتعلت بنا الطائرة و نحن فى طريقنا من الإمارات الى السعودية !!! و تم القبض علىّ و أنا بصحبته فى مطار عاصمة عربية لعدة ساعات بدون أى سبب !!! ، لكننا كنا نضحك و نحكى الحكايات على أنها طرائف .
و من شدة ثقته فى شخصى جعلنى مشرفاً على الإنتاج فى شركته – التى أقامها مع النجمين سيد زيان و إبراهيم سعفان – برغم أن العمل به كثير من الماليات و الحسابات و أنا و لله الحمد ( ساقط حساب ) فكنت أقضى الليالى ساهراً بسبب خطأ بسيط فى الجمع أو الطرح . و حتى عندما باعد بيننا العمل كانت محادثاتنا لا تنقطع و لقاءاتنا دائمة ، كما كنت أقرأ نصوصه المسرحية قبل الجميع ، و كنت الوحيد القادر على فك طلاسم خطه الصغير جداً و ألفاظه التى يكتبها متشابكة و بلا نقاط .
و تعلمت من عم عبد الرحمن عشق التاريخ ، فمنه استمد رائعته : “القاهرة فى ألف عام ” التى ترصد تاريخ القاهرة منذ لحظة بنائها ، و من تاريخ المقريزى قدم : “الحرافيش” على مسرح البالون عام 1969 ( لا صلة لها برواية الحرافيش للعالمى نجيب محفوظ ).
و برغم أنه شاعر – الى جانب كتابته للمسرح و السينما و التليفزيون – إلا أنه فى العملين تعاون مع صديقه المقرب صلاح جاهين ليكتب لها الأشعار ، و لكنه بعدهما كتب أغانى مسرحية مدرسة المشاغبين ثم فوازير فطوطة و أشعار جميع مسرحياته . و كما جاهين كان شوقى من ظرفاء العصر و الحكائين الذين يمتعوك بالحديث و لا يفوقه إلا زوج شقيقته الكاتب الساخر محمود السعدنى.
و برغم علاقتنا الوطيدة لم نلتق فى عمل مسرحى ، و لكنى استمتعت بإخراجى لشريط الصوت لعدة أفلام صاغها هو بخفة دم و موهبة مقتدرة ، و أعتقد أنه السبب الرئيسى فى اختيار سمير حبيب لى لإخراج الدوبلاج لأفلام ديزنى ، و خلال العمل على الأفلام أصبحنا نلتقى أكثر و علاقتنا تصبح أوثق . وفجأة يسقط هذا العملاق ، و اذا بالطبيب ينصح بالسفر الى الخارج ، و فوراً أتمت عائلته جميع الإجراءات ليذهب الى فرنسا على أمل أن يعود معافى ، و لكنه يعود سريعاً من هناك ، ليعلم الأقربون أنها مجرد أسابيع قليلة.
و يخلو الاستوديو من صوته المميز و دعاباته ، و يصبح المكان فى غير وجوده واجماً و حزيناً ، و تصبح ساعات العمل مملة و سقيمة ، و أفقد أنا حافزاً مهماً للعمل ، و يفقد سمير حبيب صديقه الحميم الذى كان يتحكم فى عصبيتى و غضبى .
و لأن الحياة لابد أن تستمر ، و هناك التزامات تجاه شركات و عقود لابد أن تنفذ ، فقد فرض السؤال نفسه : من سيحل مكان عم عبد الرحمن فى صياغة الحوار و كتابة الأغانى ؟ و كانت إجابتى فوراً الشاعر الجميل : بهاء جاهين ، فإلى جانب موهبته الشعرية و قدرته على الصياغة السهلة الممتعة و خفة الظل ، هو أيضا خريج قسم اللغة الانجليزية و سيساعده هذا كثيراً على فهم المقصود وراء الحوار الأصلى ليضع له مرادفاً ممتعاً و مبهجاً ، و لكن تزاحم الأفلام و حجم العمل على كل فيلم جعل من الضرورى الاستعانة بشعراء آخرين ، و كان لابد أن يكونوا على نفس المستوى فاخترنا من نفس العائلة الشاعر أمين حداد ثم الشاعر عمرو حسنى.
و الحقيقة أن الثلاثة أضافوا للأفلام التى صاغوها بحرفية عالية ، فلا يمكن أن أنسى لبهاء جاهين صياغته الرئعة لفيلم ( هرقل ) برغم كثرة المحاذير ( الرقابية العربية ) من عدم ذكر أن ساكنى الأولمب هم آلهة ، و أن هرقل يسعى لأن يصبح إلهاً لينضم إليهم ، و لا أغنية الحب الرائعة فى نفس الفيلم ، و كذلك حقق أمين حداد نجاحاً باهراً فى فيلم ( أحدب نوتردام ) و خاصة إفتتاحيته التى نقل فيها أجواء الإحتفال الفرنسى بصياغة مصرية خالصة حافظ فيها على كثير من قواعد الشعر و من خلال ألفاظ خفيفة الظل عميقة المغزى .
و هكذا دخل جيل جديد من الشعراء الموهوبين الذين طوعوا اللغة و تحكموا فى القوافى ليكملوا مابدأه عم عبد الرحمن ، و كأنهم سلسلة واحدة متصلة تسلم بعضها البعض قوة الموهبة و سلاسة اللفظ و خفة الدم و تتجلى فيهم عظمة العامية المصرية و قدرتها على التعبير و الإفصاح .
لكن يبقى فى القلب غصته من فراق الأحباب ، و لكنى لا أملك حين أتذكره إلا أن أبتسم و هو يقول لى بمنتهى الجدية : أوعى تسمع نصيحة من راجل عجوز ، قلت له : ليه ؟ قال عشان هيقولك على اللى كان بيعمله فى زمنه و انت زمنك مختلف ، ماتسمعش لحد فيهم . ثم سكت لحظة و قال : إلا أنا طبعا.