رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(ليالينا).. عرض (جروتسكي) عن واقع كنا نظنه قد كان

(ليالينا).. عرض (جروتسكي) عن واقع كنا نظنه قد كان
محمد الروبي

بقلم الناقد الفني: محمد الروبي

لم أكن أتصور أبدًا أن من الممكن اليوم تقديم مسرحية (الناس اللي تحت) للراحل العظيم (نعمان عاشور) – وقد كتبها في خمسينيات القرن الماضي – في عرض يحقق متعة بصرية وفكرية معًا بعنوان (ليالينا).

لكن شباب فرقة (جروتسك)، بقيادة المخرج الواعي (محمد الحضري)، أثبتوا لي أنني كنت مخطئًا.. فعلى الرغم من محافظة (الحضري) على نص (نعمان) القديم (بشخصياته وأحداثه ولغة حواره، مع قليل من الحذف).

ودون محاولة لليّ ذراع النص ليواكب عصرنا، جاء العرض ممتعًا جاذبًا، بإيقاع متدفق جعلني أنهض في نهايته وأهرع إليهم أحييهم فردًا فردًا، وأخصّ الحضري بحضن دافئ، تعبيرًا عن اعتذاري وفرحتي به وبفريقه.

(ليالينا).. عرض (جروتسكي) عن واقع كنا نظنه قد كان
المخرج محمد الحضري

البداية: رجل الورق

تعرفتُ لأول مرة على قدرات (محمد الحضري) الإخراجية من خلال عرضه (الرجل الذي أكله الورق)، ولفت نظري حينها اسم الفرقة: (جروتسك)، كما كُتب على البرنامج المطبوع.

وتساءلت: لماذا (جروتسك) عنوانًا للفرقة؟ هل هو اختيار عشوائي لغرابة الاسم؟ أم أن أعضاء الفرقة وقائدهم يعرفون المعنى ويختارونه عمدًا، ليعبر عنهم؟ ومع تدفق عرض (الرجل الذي أكله الورق)، أيقنت أن الفريق وصاحبه يعون تمامًا مدلول الاسم.

فها هو (الجروتسك) يُقدَّم بوعي وتعمد، وبمعرفة دقيقة لملامحه، فالجروتسك في المسرح ليس مجرد عرض للغرابة، بل هو استراتيجية جمالية وفكرية تهدف إلى تعرية الواقع عبر تشويهه، وإلى مساءلة الإنسان وموقعه في عالم فقد توازنه وتحول إلى مشهد كابوسي.

وها هو عرض (ليالينا) يأتي ليؤكد هذا المعنى، في مغامرة جديدة تعتمد على نص قديم كتبه (الشاب آنذاك) نعمان عاشور في آواخر الخمسينيات، ليطرح فيه رؤيته لعصره، حيث قُسِّم البشر إلى نوعين: (ناس فوق، وناس تحت)، ويكشف زيف هذه القسمة الجائرة التي كان يروّجها أصحاب (الفوق) باعتبارها قدرًا إلهيًا لا يجوز الاعتراض عليه.

 كان شباب الخمسينيات في مصر – ومنهم نعمان – يقاومون هذه القسمة الظالمة، ويعرّونها في أعمال متنوعة (مسرح، رواية، شعر، سينما)، حتى جاءت ثورة يوليو على يد شباب آخرين من الجيل ذاته، ليثوروا على هذا الوضع الجائر، ويعملوا على تصحيح الهرم الاجتماعي بالإصلاح الزراعي والقوانين الاشتراكية.

لكن بعد نهاية ثورة يوليو عام 1970، بوفاة قائدها، عاد أصحاب القسمة الجائرة إلى الحياة، واستعادوا مكتسباتهم (الحرام) بقوانين انفتاح زائف، يستند إلى فهم ديني مغلوط يسمّونه (قدر الله)، وهكذا عاد المجتمع المصري إلى سيرته المعوجة، التي استمرت لأكثر من نصف قرن – منذ رحيل قائد الثورة – حتى الآن، في عودة تثير ضحكًا أقرب إلى البكاء.

(ليالينا).. عرض (جروتسكي) عن واقع كنا نظنه قد كان
(ضحك أقرب إلى البكاء)، هو التعبير الأصدق لوصف عرض (ليالينا)

مسخرة الواقع

(ضحك أقرب إلى البكاء)، هو التعبير الأصدق لوصف عرض (ليالينا)، الذي قدّمه (محمد الحضري) على خشبة مسرح (نهاد صليحة) عبر فرقة (جروتسك)، فالضحك هنا مجروح، طارح للأسئلة، عن شخوص وأحداث كاريكاتورية لواقع قديم كنا نظنه زال إلى الأبد، فإذا بالعرض ينبّهنا إلى أن الزائل قد عاد، وأن ما كنا نظنه تاريخًا مضحكًا، صار واقعًا كابوسيًا مؤلمًا.

وهنا تحديدًا تكمن ضرورة استخدام منهج (الجروتسك): فلا شيء حقيقي، والواقع ليس أكثر من نكتة سخيفة، وشخصياته أقرب إلى الكاريكاتير، والأماكن والأحداث أشبه برسومات أطفال تضخّم الأبعاد وتبالغ في الألوان، وتغرق في مسخرة لا تضاهيها إلا مسخرة ما نحياه.

منذ البداية، يصدمنا المنظر المسرحي (الثابت تقريبًا مع تغييرات طفيفة في الإكسسوار)، الذي صممه (محمود صلاح بيرو)، ليؤهلنا لهذا التشويه المتعمد.

فالمكان هو بدروم في إحدى عمارات العاصمة، لكنه بدروم مشوّه، جدرانه مائلة، كناية عن اعوجاج الحياة.. وأبواب حجراته ليست سوى ستائر مهلهلة.. أما الشخصيات، فعلى الرغم من واقعيتها، تأتينا بمكياج مبالغ فيه.

نجح مصممه ومنفذه (محمد شاكر) في تحويلهم إلى شخوص أقرب إلى عوالم الأطفال السحرية، لتمنح الوجوه، مع الملابس الملطخة بالألوان والرسومات السريالية، إحساسًا كابوسيًا هو جوهر المنهج الجروتسكي.

وبوعي بالمنهج، يفاجئنا الحضري، ومعه مصمم الديكور والملابس، بأنهم ينقذون أربعة شخوص فقط من هذا التشويه: عزت (الرسام)، ولطيفة (حبيبته وابنة عامل التذاكر)، وفكري (الخادم)، ومنيرة (الخادمة).. أربعة شباب يحلمون بالمستقبل، ويسعون لتحقيقه، ولو بالهرب من هذا الكابوس الواقعي، بالخروج من البدروم إلى حيث الحياة الأرحب.

(ليالينا).. عرض (جروتسكي) عن واقع كنا نظنه قد كان

(ليالينا).. عرض (جروتسكي) عن واقع كنا نظنه قد كان
عرض يشكّل تأكيدًا إضافيًا على حالة الغدر التي أصابت مجتمعنا

عقد اتفاق

في البداية، يظهر عزت (الرسام) خارجًا من حجرته، يقف أمام حامل خشبي ويستدعي شخوص العمل ليشكّلوا معًا لوحة ثابتة، وكأنه يعقد معنا اتفاقًا أوليًا على أن ما سنراه لاحقًا ليس سوى لوحات تشكيلية عن واقع أشد خيالًا مما يرسم.

ثم تتوالى الأحداث، لنفاجأ بأن الممثلين يؤدون أدوارهم بمبالغة محسوبة، تتماشى مع مبالغة المكياج والملابس، ليُبعدونا – نحن المتفرجين – عنهم وعن أحداثهم، فنراهم من الخارج ونفهم أكثر واقعنا الذي كنا نظنه عاديًا.

بل إن عنوان (ليالينا) – المستوحى من أغنية قديمة للمطربة وردة، والتي تُذاع ضمن العرض إلى جانب أغانٍ أخرى من أزمنة مختلفة – يشكّل تأكيدًا إضافيًا على حالة الغدر التي أصابت مجتمعنا، والعودة إلى النقطة صفر، حيث يوجد (ناس تحت) و(ناس فوق) فكلمات الأغنية تقول:

( ليالينا ليالينا.. وتاهت بينا تاهت.. ليالينا ليالينا

وأتاري الدنيا غدارة

بتغدر كل يوم بينا .. غدارة

والله وجيتي علينا يا دنيا

وجيتي كتير على ناس قبلينا)

وإذا كانت حكاية (الناس اللي تحت) حكاية بسيطة، أبطالها من الواقع، يمثل كل منهم شريحة اجتماعية، ويتصارعون مع بعضهم البعض ومع واقعهم، فإنني أحرص هنا على عدم إعادة سردها.. فأنا من المؤمنين بأن قراءة العروض المسرحية لا تعني (حرق) الحكايات، بل تعني بالأساس قراءة كيفية تقديمها.

وهنا، لا بد من التأكيد على أن التمثيل في عرض (ليالينا) كان أحد أهم عناصر نجاحه، وأنه نابع من فهم حقيقي لطبيعة المنهج المستخدم.. ولولاه ما بلغ هذا المستوى من الدقة والحرفية، الذي لم يكن ليأتي إلا بعد تدريبات طويلة، وشرح وتجريب متكرر لطريقة النطق والحركة.

وهو ما دفعني فور نهاية العرض لأن أهرع إليهم، أُصافحهم واحدًا واحدًا، معبرًا عن فرحتي بجيل قادم يعي واقعه، ويبحث عن طرق جديدة للتعبير عنه.

شكرًا لفرقة (جروتسك) على هذه المتعة.. وكل التحية لقائدها المخرج (محمد الحضري).. وفي انتظار جديدهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.