رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد حبوشة يكتب: (محمد عبد المنعم).. الجنرال الذي احترف الصحافة والأدب

محمد حبوشة يكتب: (محمد عبد المنعم).. الجنرال الذي احترف الصحافة والأدب
لقب بجنرال الصحافة وعميد المحررين العسكريين

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة

رحل الكاتب الصحفي الكبير (محمد عبد المنعم) الذي لقب بجنرال الصحافة وعميد المحررين العسكريين، والذي اقتربت منه في عام 1985، عندما التحقت بالأهرام متدربا بقسم السكرتارية الفنية، حين وجدته يقف على رأسي وأنا أقوم بعمل ماكيت لصفحة (الدولة).

ولاحظ الراحل العظيم أنني أقوم بكسر قواعد إخراج هذه الصفحة وتصميمها بطريقة مختلفة عن ما هو سائد في ذلك الوقت، حيث رسمت الماكيت بجعل كل أخبارها وتقاريرها على عمود ونصف، حينها قال لي: ماذا تفعل يا مجنون، أنت بهذا الماكيت تتمرد على تقاليد الأهرام الراسخة بعدم كسر الأعمدة، لكنه في نهاية الأمر أثني عليّ.

ذات مرة أخرى في عام 1987 دخل علىّ وتعلو جبهته ابتسامة عريضة، عندما رأني أرتدي الزي العسكري – في أثناء فترة تجنيدي بالقوات المسلحة – وأقومي بممارسة عملي الإخراجي بصالة تحرير الأهرام العريقة، قائلا: هل تحب عملك الصحفي إلى هذا الحد؟ فتأتي الجريدة بلباسك العسكري: (برافوا أيها المتمرد على كل تقاليد الأهرام).

في نهاية الليلة حيث كان يقود (الديسك المركزي) لإعداد الطبعة الثانية والثالثة، وقال لي (أنا عاوزك تشتغل معي في مجلة الدفاع)، والتي كانت تصدر بالتعاون بين القوات المسلحة ومؤسسة الأهرام، كان وقتها مديرا لتحرير المجلة، التي كانت تصدر برئاسة تحرير اللواء (فريد متولي الجحش).

وظللت أعمل بمجلة الدفاع حتي تولى الأستاذ (محمد عبد المنعم) رئاسة تحريرها لتتوثق العلاقة بيننا حتى لازمته لسنوات طويلة في سهرته بديسك الأهرام المركزي، ولأنه ارتاح لي كان في كل سهرة يحكي لي عن فترة التحاقه بالجيش، ومن ثم بدايات عمله محررا عسكريا من طراز رفيع المستوى.

تعلمت خلال فترة عملي مع الأستاذ (محمد عبد المنعم) أن التمسك بالأخلاقيات بحذافيرها، هو شرط الصحفي الجيد، لأنه من وجهة نظره: أن الالتزام بحدود المسؤولية الاجتماعية للمهنة لايعيق عمل الصحفي، ويثبط عزيمته في السعي الجاد نحو كشف الحقائق كما هي بأفضل ما بوسعه – كما يعتقد البعض – لأن عدم الالتزام الأخلاقي من شأنه أن ينتج صحافة باهتة يلفها الجمود، منفصلة كليا عن واقع الناس، ولا تحقق لهم نفعا.

محمد حبوشة يكتب: (محمد عبد المنعم).. الجنرال الذي احترف الصحافة والأدب
الأخلاق عنده كانت نابعة من مفهومها الفلسفي وأقوال المفكرين والفلاسفة

(فلسفة الأخلاق) عنده

ولا تقتصر دائرة الأخلاقيات على ما ينبغي فعله وقوله وما لا ينبغي، بل هى أرحب بكثير مما يدرك البعض، بمن فيهم الصحفيون أنفسهم، إذا ما أرجعنا الأخلاق إلى مفهومها الفلسفي وأقوال المفكرين والفلاسفة ونظرياتهم في هذا الباب الكبير (فلسفة الأخلاق)، فوفق مبادئه الأساسية أنه هذا يمنح المجتمع الفرصة ليرى ذاته عن قرب.

وكلما كان الصحفيون مؤهلين وبارعين فيما يقدمونه من معلومات لا يتسرب إليها الشك، ولا يعتريها الخطأ أو النقصان وعلى النحو المطلوب لصناعة رأي عام مستنير وواع، هو الذي يحفز ثقة الجمهور، ولاشك أن هذا يحدث تماس مع أخلاق المهنة وآدابها.

كان الراحل العظيم (محمد عبد المنعم) يؤمن إيمانا عميقا إن ما يزيد من عبء مهنة الصحافة على العاملين في المجال والملتزمين بأخلاقياتها ومبادئها هو أن يتصرف الصحفي بمسؤولية، وأن يخضع أفعاله وأقواله لميزان دقيق، فالكلمات التي يكتبها أو ينطق بها قد تكون لها تأثير كبير ولا تخلو من عواقب وخيمة أحيانا.

هذا المفهوم لطالما ارتبط أشد الارتباط عند الراحل الكبير (محمد عبد المنعم) بهذه المهنة حتى كاد يكون المعيار الرئيس عنده في التمييز بين صحفي وآخر، والاختيار بين مؤسسة إعلامية وأخرى في متابعة تغطيتها الحية للأحداث ونقل الصور والأخبار.

مما جعل كثيرا من الأفراد والمؤسسات في قطاع الصحافة والإعلام عموما في سباق محموم من أجل أن يظهروا أمام جمهورهم موضوعيين إلى حد ما، وهم عن الموضوعية أبعد ما يكونون.

وما الموضوعية التي كان يتخذها (محمد عبد المنعم) شعارا ونبراسا في كل وقت وحين إلا غلافا لحيلة من حيل العلاقات العامة التي يمارسها لاستمالة عواطف الناس وخطب ودهم، بدل ممارسة المهنة على أصولها وإلقاء بالشعارات الجوفاء التي لا تؤسس لصحافة جادة جانبا، كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون موضوعيا من تعوزه القدرة على الفصل بين الحقيقة والرأي.

ولأن (محمد عبد المنعم) كان شديد الصرامة في عمله الصحفي إلى حد أن كثيرون من أبناء الأهرام كانوا يخشون الاقتراب منه، فكانوا يظنون أن طباعه العسكرية تغلب عليه، خاصة أن الواحد منهم لا يكلف نفسه عناء تحري دقة ما يسرده من وقائع والتثبت من صحة ما يذيعه من أنباء بالرجوع إلى مصادرها الموثوقة هو ما يجعله لا يصلح أن يكون صحفيا.

محمد حبوشة يكتب: (محمد عبد المنعم).. الجنرال الذي احترف الصحافة والأدب
الحياد إزاء الجدالات المجتمعية أو قضية من القضايا التي تختلف حولها الآراء

حياد الصحفي المحترف

على العكس اكتشفت رقة قلبه وحسه الأدبي الرفيع وشياكته حيث كان يبدو كجان، ومن ثم كان (محمد عبد المنعم) كان يلقنني دروسا مفادها: كيف يتجرأ الصحفي على القول إنه موضوعي وهو لم يلتزم الحياد إزاء الجدالات المجتمعية أو قضية من القضايا التي تختلف حولها الآراء وتتصادم، ما عدا حيال القضايا العادلة والحقوق والقيم الإنسانية والأفكار التي تروج للكراهية والعنف وللعنصرية.

حكى لي الأستاذ الراحل العطيم (محمد عبد المنعم) عن ملابسات إحدى المحطات المهمة في حياته المهنية، في أثناء تغطيته الميدانية لزيارة مسؤولين عسكريين لمصابي حادث الطائرة الليبية عام 1972، وكنت في أثناء حكيه فخورا جدا بشجاعته وبأسه الشديد في عمله الصحفي، خاصة أن كان يحمل عينين خضروان تلمعان في ضوء خاطف.

ومن ضمن حكاياته المشوقة هذه القصة الطريفة: أن فى أول أكتوبر 1973، تم استدعاء كل ضباط الاحتياط، لكن اللواء سامى الشيخ – مدير شئون الضباط – قال لي: (إنت تأخذ بعضك وتمشى دلوقتى – ولو عرفت أن الحرب قامت، إلبس ميرى وتعال)، فكنت أرتدى قميصا عاديا على البنطلون الكاكى كنوع من الاستعداد لأى أمر طارئ، وتصادف أن رآنى هيكل، فاستفسر عن السبب، فأخبرته.

وأذكر أن اللواء (سامى) طلب منى حينها أن أستمر فى لقاءاتى بزملائى من المراسلين العسكريين الأجانب، حتى لا يشعروا بأن هناك حالة طوارئ فى البلد، وبالتالى ينقلون فى تقاريرهم ما يشير إلى ذلك، فكنت أسهر معهم حتى لا يكون اختفائى سببا فى إثارة شكوكهم.

من المواقف اللافتة أيضا؛ وتدلل على حرص القيادات العسكرية حينها على التكتم الشديد بشأن شن الحرب، والتمويه حتى على المستوى الداخلي؛ فى يوم 3 أكتوبر 1973، طلبت إجراء لقاء صحفى مع الفريق أحمد إسماعيل – وزير الدفاع – وكنت أشعر بأن مصر تستعد لشيء ما، لكن لا أعلم متى سيتم ذلك تحديدا.

وحصلت على ميعاد من مدير مكتبه المقدم (حمدى الجندي)، وكنا أصدقاء بحكم أنه من دفعتى فى كلية الدفاع الجوي، وكان الميعاد هو الساعة الثانية ظهر يوم السبت 6 أكتوبر، وذهبت يومها لأجد الوزارة خالية تماما، وما هى إلا دقائق حتى علمت أن الحرب قامت، والتي شارك في خطة الخداع الاستراتيجي لها.

ومن ضمن حكاياته الآسرة استطرد (محمد عبد المنعم) في حديثه معي قائلا: حدث فعلا، إنه وقع مرة خلاف بيني وبين (هيكل) على نوع الطائرات التى تظهر فى صور وكالات الأنباء الغربية، وتخص الجانب الإسرائيلى، فقال الأستاذ (هيكل) إنها طائرات فانتوم، فاعترضت وقلت إنها (سكاى هووك).

فسألني: (وكيف عرفت) فبدأت أشرح الفارق بين النوعين فى شكل الأجنحة ووحدة الذيل، ولم ينتظر حتى أكمل، إذ تأكد أنى أتحدث عن علم، ثم أعلن للحاضرين: (لو اختلفت أنا ومحمد عبدالمنعم فى معلومة عسكرية، خذوا كلامه هو!).

محمد حبوشة يكتب: (محمد عبد المنعم).. الجنرال الذي احترف الصحافة والأدب
كان لنجاحه الكبير في الأهرام دورا مهما في اختياره لتقديم برنامج (العالم في حرب)

برنامج (العالم في حرب)

كما كان لنجاحه الكبير في الأهرام دورا مهما في اختياره لتقديم برنامج (العالم في حرب) الذي عرض على القناة الثانية في مطلع الثمانينيات، وحقق نسب مشاهدة مرتفعة، وكان (محمد عبد المنعم) يحرص خلال البرنامج على تقديم شرح واف لأحداث الحرب العالمية الثانية، مما ساعد المشاهدين على متابعة الأفلام الوثائقية المصاحبة بوعي وفهم.

ويضيف (محمد عبد المنعم): تعلمت الإخلاص فى العمل، واحترام المهنة، التى لو أجادها أحد لأصبح فى منزلة تضاهى أعلى الرتب والمناصب، وبجانب أنه صحفى شديد التميز، كان يتمتع بشخصية قوية وقيادية من الدرجة الأولى، تجعل الجميع ينقاد له، ومن النادر أن نجد من يجمع بين الكفاءة الصحفية والإدارة الجيدة، كما تجسدت في إدارته لمؤسسة روزاليوسف).

يقول (محمد عبد المنعم): فى الحقيقة كانت دراستى العسكرية هى ما أعاننى على عملى، ثم اطلاعى على الصحافة الأجنبية وطريقة عمل المحررين العسكريين فى الغرب، خاصة بعد هزيمة 1967، كان لابد للمحرر العسكرى أن يكون على دراية وفهم لكل التفاصيل العسكرية، لا أن يكون مجرد حامل لبيان تعده الشئون المعنوية وينشره كما هو.

ولابد لكى يشرح للقارئ أن يكون ذا علم، وهذا ما حاولت القيام به، فى هذا السياق؛ أذكر أنى نشرت مانشيتا عن إسقاط دفاعنا الجوى طائرة استطلاع بدون طيار، وكان ذلك مفاجاة للجميع، وكنت قد رأيت الحطام وقمت بتصويره.

ويستطرد (محمد عبد المنعم): لولا عملى فى الأهرام لما كنت سأصبح صحفيا ماهرا أو أتمكن من التعامل مع الصحفيين، وبالتالى ما كنت لأقوم بتلك المهمة على أكمل وجه، ووظفت خبرتى لخدمة رئيس الدولة في فترة تولي مسئولية إدارة مكتبه في فترة عصيبة من عمري.

والحقيقة أن نجاحى كمحرر عسكرى فى الأهرام، كان سببا فى اختيارى أيضا لتقديم برنامج (العالم فى حرب) على القناة الثانية فى مطلع الثمانينيات، وكان يحظى بمشاهدة عالية، حيث كان يعرض أفلاما وثائقية عن الحرب العالمية الثانية، وكنت قبل عرض الفيلم فى كل حلقة، أشرح محتواه، وأفسر مفاهيم غامضة بالنسبة للمدنيين، وبالتالى يتابعون الفيلم بسلاسة ويسر.

ويضيف (محمد عبد المنعم): أتعجب من القدر، إذ كان من المفترض أن أكون ضابطا، لكن يشاء الله أن أكمل دراستى فى كلية الآداب، وأعمل صحفيا فى الأهرام، وكنت أقضى يومى بالكامل بها، كانت المؤسسة الصحفية الأنسب لشخصيتى التى تسعى دائما للكمال، والأهرام بثقلها وإدارتها وأسلوب العمل بها كانت نموذجا للكمال، وكل شيء فيها كان كما ينبغى أن يكون.

محمد حبوشة يكتب: (محمد عبد المنعم).. الجنرال الذي احترف الصحافة والأدب
كان يخفي وراء صرامته العسكرية حسا أدبيا رفيع المستوى

حس أدبي رفيع المستوى

ومما يلفت النظر في مسيرة الراحل العظيم (محمد عبد المنعم)، أنه كان يخفي وراء صرامته العسكرية حسا أدبيا رفيع المستوى، وهو ما ترجمه ببراعة مطلقة في قصة (ذئب فى قرص الشمس) فى الثمنينيات من القرن الماضي، وأوضح إنها مستوحاة من أحداث حقيقية عاشها الراحل.

قائلا: حيث تدور أحداث القصة حول اثنين من الطيارين المقاتلين، فقد أحدهما بعد أن ضل طريقه فى الجبل، وبعد أيام من البحث عثرنا عليه وقد نهشت الذئاب جثمانه، كناية عن إسرائيل التي تنهش في المنطقة، ونشرت القصة في الأهرام مسلسلة على حلقات في عدد الجمعة مصحوبة بصور للأبطال الحقيقين، وقد صدرت لاحقا في كتاب من ثلاث طبعات.

رحم الله الراحل الكبير الجنرال (محمد عبد المنعم)، الإنسان، رقيق القلب والمشاعر، على صرامته العسكرية، والذي لخص الوصفة السحرية للانتصار فى معركة الصحافة، قائلا: (الشغل والتواضع والترفع).. فعلا هذه هى مقومات العمل الصحفي الجاد على حد تعبيره البليغ.. خاص العزاء لابنيه الصديق الكاتب الصحفي (أشرف عبد المنعم) والفنان الجميل (تامر عبد المنعم).. إلى جنة الخلد يا جنرال.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.