
بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
تمايز العرض المسرحي المصري القديم بوجود (الجوقة) المسرحية، ويبدو أن المسرحي المصري هو أول من أوجد عنصر (الجوقة) داخل العرض المسرحي، وهى عبارة عن مجموعة من الممثلين والممثلات يؤدون الجمل التمثيلية بشكل جماعي، وفق إيقاع صوتي دال على طبيعة تسلسل الأحداث المسرحية.
وهذا العنصر (الجوقة) من عناصر العرض المسرحي، له ارتباط وثيق بالجهاز الحسي للمشاهد والممثل داخل العرض، عبر الصوت الجماعي الصادر عن الأداء الجماعي للجوقة.
وبداية: نلحظ هذا التأثير الصوتي على المشاهد ، من خلال المشاهد التي يظهر فيها الكورس، إذ حاسة السمع عند المشاهد تنفعل بشدة، وتتنبه عند استقبال هذا الصوت، فهو أشبه ما يكون برجة صوتية جمالية، تتغلل (الجوقة) داخل المشاعر الداخلية للمشاهد مما تحفزه على التنبه الشديد، وتنقله إلى عالم الأحداث، وكأنه وسط هذه الأحداث بواقعها.
ونسوق مثال على صوت (الجوقة) وتوظيفه وفق أحداث مسرحية (انتصار حورس):
فرقة المغنين ( الكورس – الجوقة):
إن حليك المتخذة من شعر النعام لجميلة
وكذلك أحبولتك التي هي أحبولة الإله( مين)
وسهمك الذي هو سهم حربة الإله أنوريس
وذراعك كانت أولى من رمى بالمقمعة..
وهؤلاء الذين على الشاطئ يفرحون عند رؤيتك
كما يفرحون عند طلوع الزهراء في أول العام
وعندما يشاهدون أسلحتك تمطر في وسط النهر
كأشعة القمر عندما تكون السماء صافية.
وإن (حور) في قاربه مثل ونتي حينما يبطش بأفراس البحر من سفينته البحرية
فرقة المغنين والمتفرجين: اقبض بشدة يا حور، اقبض بشدة!

الجوقة تشارك في الحدث
في هذا المشهد: سكان المستنقعات المكان الذي تربي فيه (حورس)، يتابعون المعركة بينه وبين ست، ووظيفة (الجوقة) ليست تعليق على الأحداث فقط، بل هم مشاركين في الحدث بشكل منظم، ويقمون بنقل الصور السمعية الدالة على المعركة عبر أصواتهم بشكل منظم الإيقاع.
وهذه الصور السمعية الصوتية الجمعية تحدث رهبة لدى المشاهد وانبهار، خاصة مع تدرجها الإيقاعي، الذي نشاهده في هذا المشهد:
أولا: صورة صوتية سمعية تتغنى بقوام (حورس) الحربي، وتسترسل في وصف اسلحته التي يحملها.
ثانيا: صورة سمعية صوتية ، تصف الجمهور الواقف على الشاطئ يتابع المعركة.
ثالثا: تشجيع حور للقبض بشدة على عدوه ست
وعند تمثيل هذا المشهد سوف يتدرج هذا الصوت الجمعي وفق إيقاع بطئ ومتوسط، إلي إيقاع شديد دال على الحماسية.
هذا الصوت له تأثير كبير على (الجهاز الحسي) للمشاهد، إذا يستقبله بالأذن ويدخل إلي ذهنه، ليتخيل المشاهد الصور السمعية بصوتها الجهوري الجمعي ، وتجعله يشعر برهبة المعركة، فتنفعل مشاعره الداخلية لتبرز حالة الترقب والقلق على مصير حورس في هذه المعركة.
خاصة وأنها معركة انتقام واسترداد العرش، ويكون الصوت الجمعي التمثيلي في هذه الحالة هو الناقل الحقيقي لحالة المعركة، مما يحدث أثرا شديدا من خلال تدرج الطبقات الصوتية الجمعية (الجوقة) لدى المشاهد، ويقوى الصوت الجمعي أكثر فأكثر، وينتقل إلي حالة المعركة الحقيقية من خلال هذا المشهد
حور : إن المقمعة الثانية قد ارتشقت بشدة في جبهته، وشجت أم رأس الأعداء هكذا..
فرقة المغنين: اقبض بشدة على المقمعة..
وتنفس هواء خميس يا سيد مسن ويا آسر فرس البحر ويا خالق السرور..
والصقر الطيب الذي ينزل قاربه ويسبح في النهر في سفينته الحربية رجل أول ورقة بشنين.. (حور) المحارب، ورجل أول ورقة بشنين.
وأولئك الذين في الماء يخافونه
والوجل منه في قلوب الذين على الشاطئ
أنت يا مخضع كل واحد، وأنت يا من.. قوي
والخبيث الذي في الماء يخافك
وإنك تضرب وتجرح كأن (حور) هو الذي يرمي بالخطاف
والثور المنتصر رب البطولة.
وإن ابن (رع) قد عمل لحور كما عمل حور نفسه (حقٍّا
أن ابن رع قد عمل بالمثل
دع مخالبك تقبض المقمعة الثانية.
فرقة المغنين والمتفرجين: اقبض بشدة يا حور.. اقبض بشدة!

قوة الصوت الجمعي
وبالتالي يزداد التأثير الجمالي، وتتألق الصور الصوتية السمعية، بإيقاعها الشديد، ويسيطر على (الجهاز الحسي) للمشاهد، ويجعل المشاهد في حالة من التخيل للمعركة، وقوة الصوت الجمعي تؤثر فيه وكأن المعركة حقيقية.
أما بالنسبة لتأثير هذا الصوت الجمعي على الممثل أو الممثلة التي تؤدي العرض مع (الجوقة)، فإن هذا الصوت بصورة السمعية ، يتخلل للجهاز الحسي للمثل أو الممثلة، ويساعده في إخراج المشاعر الداخلية للشخصية ، ونسوق مثل من شخصية (إيزيس)..
(إيزيس): أحصن قلبك يا ابني حورس..
اغرس حربتك الحادة في جسد فرس النهر (ست)
في هذا المشهد: تنفعل الممثلة من خلال الصورة الصوتية السمعية بقوتها وهزتها الصوتية، وتطلق مشاعرها تجاه ابنها (حورس)، وتشجعه بتحصين قلبه، ثم تأمره بقوة مشاعرها الجريحة من أفعل ست بأن يغرس حربته بقوة في فرس النهر.
فما قاله الكورس، من صور صوتية أثار أيضا الجهاز الحسي عند الممثلة، وحفز خيالها على تصور الاحداث التي مرت بها، فساعدها على إخراج صورة مشاعرها التي تنطبع على وجهها، لتكمل:
(إيزيس): والحوامل من فرس النهر لا يلدن..
ولم تحمل واحدة من إناثهم
عندما يسمعون صوت رمح الخاص بك..
وصفير نصلك، مثل الرعد في شرق السماء
كالطبل في يد طفل..
وتتعنى بقوة ابنها، وبراعته في القتال، متأثرة بالصوت الجمعي.
ونري في مسرحية (انتصار حورس) أن بناء العرض المسرحي الخاص بتلك المسرحية ، يعتمد على الصوت ، وتأثيراته على الجهاز الحسي للإنسان، سواء كان ممثلا أو مشاهدا، وهذه المسرحية تعد من أوائل المسرحيات في العالم التي تستخدم الصوت السمعي ذو الصور السمعية بتأثيراته على (الجهاز الحسي).
وهكذا يكون العرض المسرحي في تنوعاته التي تعد في عصرنا الحديث مسارح تجريبية، ولكنها لم ترقي لمستوي التجريب داخل العرض المسرحي، والمثال هذه المسرحية، فالصوت في هذه المسرحية هو الذي يولد الخيال البصري، عند المشاهد.
وفي عروض أخرى في المسرح المصري القديم يعتمد التمثيل الصامت في بناء العرض المسرحي، وفي عروض أخري يعتمد على الصور المرئية الوثائقية والمزج بينها بالصوت المصاحب لوصف الأحداث الماضية ، وعروض أخري تعتمد على الممثل الفرد فقط بصوته ومشاعره لتمثيل العمل.. إلخ.
وبهذا تكون مصر من أوائل الدول في العالم التي تعتمد في عروضها على (الجهاز الحسي) للإنسان، ويكون بناء عروضها المسرحية لا يعتمد على النص بل الصوت، والصور.