
بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر
منذ عقود، ظلّ اسم (أسمهان) يتردد همساً في الذاكرة الفنّيّة العربيّة، الأميرة المغنّية، والمرأة التي سبق صوتها زمنها منذ أيّام، وفي قلب القاهرة، نُصب تمثالها أخيراً. لحظة تأخرت كثيراً، لكنّها حين جاءت، حملت معها دلالات تتجاوز فكرة التكريم، لتصبح علامة على إعادة الاعتبار لصوت نسائي ظلّ فريداً، حتّى في غيابه.
في هذا المقال، نغوص في عوالم (أسمهان)، لا لنستعرض سيرتها، بل لنفكك ريادتها، ونقرأ التمثال الجديد كرمز ثقافي يعيد طرح السؤال القديم: لماذا خسرناها مبكراً؟، وماذا بقي منها حيّاً في وجداننا الجماعي؟

(أسمهان): الأميرة التي غنّت للورد
في زحمة أسماء العمالقة في بدايات القرن العشرين، ما تزال (أسمهان) – الأميرة التي عصفت بها الأقدار نحو الفن – تقف في زاوية ضوء لا تنطفئ.. صوتها لم يكن فقط استثنائيّاً في خامته، بل في جرأته، في اختياره لموضوعات لم تطرقها امرأة قبلها، وفي تفكيكه للأطر الجامدة التي كبّلت الأغنية العربيّة لعقود طويلة.
ولدت (أسمهان) في عائلة آل الأطرش السوريّة، وبدت منذ صغرها وكأنّها خُلقت لتكون استثناءً في كلّ شيء.. كانت من أوائل المطربات اللواتي غنّوا للورد، وأوّل من ربط بين الغناء ومفردات الطبيعة بحسّ أنثوي نادر يفيض بالشاعريّة وأغنية يا بدع الورد شاهد يتجدد في عالم الأغنية العربيّة إلى يومنا هذا.
لكنّها أيضًا كانت أوّل من غنّى لمهنة الطبّ، في سابقة تكشف نظرتها الحداثية للأغنية، وتحررها من الخطاب الغنائي التقليدي الذي اقتصر على عوالم الحبّ في صورة نمطيّة إلى حدٍّ بعيد، وقصيدة (راعي الأبدان) هي دليلنا في هذه الإشارة.
لم تكتفِ (أسمهان) بكسر قوالب النص الغنائي، بل ساهمت مع شقيقها موسيقار الأزمان (فريد الأطرش) في تفكيك البنية الموسيقيّة التقليديّة للأغنية العربيّة، ليقدّما معاً تجارب طليعيّة، تمزج بين الأصالة والانفتاح على التأليف الغربي، من دون أن تفقد الروح الشرقيّة لحنها أو هويّتها، فكانت (أسمهان) أوّل من غنى الأوبرا وأنواع الغناء غير العربيّة مثل: (الفالس، والتانغو، والرومبا).
لقد فتحت (أسمهان) باب التجريب بروح المغامرة، لا بروح التمرد العشوائي، وكانت تتقن اللعب على الحبل الرفيع بين التقاليد والتجديد.
وإن كانت الحياة الفنّيّة وحدها تكفي لتخليدها، فإن شخصيّتها تضيف إلى ذلك طبقةً أسطوريّة؛ فقد كانت فارسة، لا بمعنى المجاز، بل بالحقيقة، وكانت تمتطي الخيل بعمر الرابعة عشرة، وفيما بعد كانت أوّل من قاد سيارة سباق بين النساء العرب.
هى امرأة ترتدي الزي وتفرض ذوقها حتّى على نجمات العالم، ولطالما نظرنا بعيوننا إلى فساتين أسمهان ورقم السنوات التي ارتدتها فيها، وإذا ما قارنّا ذلك مع نجمات شهيرات من الغرب كمارلين مونرو على سبيل المثال، نرى أن (أسمهان) سبقتهن في تجربة تلك الأزياء والموديلات عبر جلسات التصوير الخاصّة بها.
لم تكن (أسمهان) الأطرش مجرّد مطربة، بل أيقونة للأناقة والحرية والثقافة، وهذا ما جعل الصحافة الغربيّة تكتب عنها – ولا تزال – بإعجاب يتجاوز حدود الجغرافيا بل هناك المزيد من الوثائقيّات التي تتصدّر سينما التوثيق تأتي بالاهتمام ورصد حياة هذه المرأة الغنيّة بالأحداث، والقصيرة في عدد سنواتها.
تثيرنا كثير من الجوانب التي كانت الأميرة (أسمهان) سبّاقة فيها، فكانت أوّل مطربة ينتشر باسمها الكبير عطراً خاصّاً، حيث تشير التوثيقات إلى أن سحر أسمهان الخاصّ وتأثيرها على السيّدات دفع (عثمان بك نوري) لإنتاج عطر أسمهان الخاص في العام 1940.
وكان الأمر مستهجناً حينها لكنه لاقى رواجاً كبيراً من قبل النساء واقتناء قارورات هذا العطر والتباهي به، وفيما بعد حذت عدّة مطربات حذوها لكن يبقى للبداية رونقها الخاص في هذا الجانب بالتحديد.
ولأنّها كانت أكبر من أن يحتويها زمانها، جاءت نهايتها غامضة ومبكرة، كأنّها فصل ناقص في رواية كبيرة.. ولكن حضورها الفنّي ما يزال مكتملًا في ذاكرة المستمع العربي، وفي الدراما التلفزيونيّة والمسرحيّات التي تناولت حياتها، فقد كُتب عنها، ولُحّنت سيرتها، وسُردت، مراراً، بأساليب مختلفة، من دون أن تفقد دهشتها الأولى.

التمثال الذي أعاد صوتاً نسائيّاً
حفل إزاحة الستار عن تمثال (أسمهان) في القاهرة – الذي أُقيم منذ أيّام – لا يُعدّ مجرّد احتفال رمزي، بل هو لحظة ذات دلالات عميقة في المشهد الثقافي العربي.. إنّ إقامة تمثال لفنّانة مثل (أسمهان) في الفضاء العامّ تُعد بمثابة اعتراف مؤسسي متأخر بريادة نسائيّة كُسرت مبكراً، وإعادة اعتبار لصوت أنثوي ظلّ على الهامش بفعل موته المبكر، وسيرته الملتبسة.
فالتمثال لا يكرّم فقط صوتها الفريد، بل يُجسد شخصيّتها الثريّة: المرأة التي جمعت بين النخبويّة الأرستقراطيّة والحسّ الشعبي، بين الترف الشخصي والتجريب الفنّي، بين الأناقة البصريّة والجرأة الموسيقيّة. وهو أيضًا دعوة لقراءة (أسمهان) قراءة جديدة، خارج ثنائيّة “الأسطورة والدراما”، وبعين ناقدة تستمع لما أنجزته، لا لما أُشيع عنها.
وفي مدينة كالقاهرة، المزدحمة بتماثيل الساسة والكتّاب، يشكل تمثال (أسمهان) استردادًا رمزيّاً لدور المرأة المبدعة في المشهد الحضري والوجدان الشعبي، ولفتة تعويضيّة عن عقود من التجاهل أو التحييد.. إنّه تمثال ليس فقط لوجهها الخاصّ بجماله، بل لصوتها الذي لم يُشبه أيّ صوت نسائي آخر.
في الختام:
أسمهان ليست مجرّد مطربة ماتت صغيرة، ولا مجرّد شقيقة لفريد الأطرش، بل هي تجربة فنّيّة متكاملة ورؤية إبداعيّة نادرة.. تمثالها اليوم لا يعيد إلينا شخصها، لكنّه يذكرنا بأنّ الفنّ الحقّ لا يشيخ، وأنّ المرأة، حين تُعطى صوتًا وفضاءً، يمكن أن تترك أثراً لا يزول.