

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
في مناسبة مرور 50 عاما على ذكرى رحليها تثير كوكب الشرق (أم كلثوم) الجدل على مواقع التواصيل في محاولة استحضار أغانيها على جناح الذكاء الاصطناعي تارة واستعراض مسيرتها بطريقة مشوهة تنال من شخصيتها العظيمة، وجاء هذا في وقت ينبغي أن نعرض قصة حياتها بطريقة مشوقة حيث نجد فيديو مسيء لها أمام أجيال لا تعرف حقيقة عبقريتها الفذة.
نعم.. كثير من أجيالنا الحالية لاتعرف حقيقة (أم كلثوم) تلك المرأة الريفية التي بدأت حياتها الفنية المفعمة بالإثارة والتشويق بداية القرن العشرين، وكأن لسان حال الذكاء الاصطناعي يريد عنق حقيقة عبقرية الست (أم كلثوم) بقوله: (قول للزمان ارجع يا زمان) وهو الذي اقتحم عالم الفن من خلال محاولة محاكاة أصوات الفنانين الراحلين الكبار من أمثال كوكب الشرق (أم كلثوم).
ربما أثارت التجربة الخاصة بإعادة إحياء أصوات المشاهير عبر تقنية الذكاء الاصطناعي، اللغط بشأن حقوق الملكية تارة، والجدل حول حقيقة إحياء أم تشويه التراث الفني لرموز الغناء تارة أخرى، خاصة فيما يتعلق بالأمور الإبداعية.
وهنا نقول لصناع تقنية الذكاء الاصطناعي: إياكم والرموز الراسخة في حياتنا وعلى رأسها السيدة (أم كلثوم) فهى بعبقريتها الفذة تعد نموذجا أصليا (Origin model) لايمكن تقليده أو استنساخه بطريقة تبدو هزلية، بحيث تشوه صورة الخالدة في أذهاننا حتى يتلقاها الشباب على هذه الشاكلة المسيئة لجوهرة فنية نادرة يصعب تكرارها.
حين حاول الملحن (عمرو مصطفى) – شفاه الله وعفاه – العزف على أوتار التكنولوجيا مستحضرا صوت (أم كلثوم) عن طريق تقنية الذكاء الصناعي، وجعلها تغني من ألحانه، كان قد فتح الطريق أمام العبث بقيمة وقامة مثل كوكب الشرق، ومن ثم كان عصيا عليه إخضاع هذا الصوت، وربما استنكره عشاق الست، لكن أين نقابة الموسيقيين، وجمعية المؤلفين والمحلنين وورثتها من هذا التشويه المتعمد لتراثنا؟!

ليست مجرد حنجرة
تجربة (عمرو مصطفي) أثبتت في حينه أن الصوت لا علاقة له بصوت (أم كلثوم)، وتوظيف هذا الصوت في كلمات وألحان لم يكن لها يد فيها يجعلها بعيدة عن صوتها وأدائها كل البعد، لأن الأغاني تحمل روح وأداء ومشاعر صاحبها، وهى مشاعر مزيفة وتنال منا جميعا حينما يتعلق الموضوع بكوكب الشرق.
الشاهد من كلامي هذا: أن (أم كلثوم) ليست مجرد حنجرة تخرج أصواتا دون مشاعر وتفاعل الجمهور معها، أعتقد أن استخدام التكنولوجيا الحديثة شيء مهم للغاية في الموسيقى، وظهور نظام التوزيعات الجديدة ساعد على التطور، ولكنني ضد استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي أو التكنولوجيا الحديثة في إحياء صوت مثل (أم كلثوم) أو (عبدالحليم حافظ) أو غيرهما من أساطين الطرب في القرن التاسع عشر والعشرين.
إذا كان أحد من هؤلاء العظماء على قيد الحياة الآن أعتقد أنهم كانوا سيرفضون هذا الأمر بشدة، لأن الغناء في الأساس هو إحساس بالكلمة واللحن، فكيف يمكن لتقنية أن تحل محل هذه الأساطير الفنية التي لاتتكرر؟، كيف نضع (أم كلثوم) في هذا الشكل وهى هرم من أهرامات الفن!
أرى أنه لابد أن يتم اتخاذ الإجراءات القانونية من قبل نقابة المهن الموسيقية لوقف هذا التشويه، (فلنترك العظماء الذين رحلوا عنا بأعمالهم الخالدة لتظل برونقها لأن ذلك يعتبر بمثابة نبش في القبور)، وهناك ورطة قانونية يقع فيها مغامرو الذكاء الاصطناعي، خاصة ذلك الفيدو الذي يروي حياة (أم كلثوم) بطريقة ساذجة لا تليق بالمقام الرفيع لهذ السيدة التي أشجتنا وجعلتنا نهيم في دنيا الحب والغرام ونتمسك بوطنيتنا على جناح أغانيها.
أين ورثة (أم كلثوم) أو من يحمل توكيلا منهم؟، هم فقط الذين لهم الحق في استغلال اسمها وأغانيها، فالإبداع الفني هو ملك مؤلفه أو ورثته، وهناك قانون ضد انتهاكات حقوق المؤلفين أيضاً والتعدي عليهم من جانب صناع فيديوهات التفاهة التي أراها تمثل خطورة ليس في التجرأ على اسمها، بل تشويه تاريخها وتلخيصه في امراة تعددت زيجات وعلاقاتها العاطفية بهذه الصورة البشعة التي تخالف الواقع.
ومن ثم ينبغي من ملاحقة أمثال هؤلاء ومقاضاتهم، حماية لتاريخ وتراث (أم كلثوم) وإظهارها بصورة مسيئة أمام شباب اليوم، بحيث تجعلهم يصدقون صورتها المعالجة بالذكاء الاصطناعي رغم سذاجتها.

رمز لا يجوزالعبث به
لدينا أمثلة على التصدي لمثل تلك المغامرات، ومنها قامت مجموعة يونيفرسال الموسيقية (Universal Music Group) – إحدى أكبر شركات الموسيقى في العالم، والتي تمثل كل من النجوم العالميين (دريك، وأريانا غراندي، وهاري ستايلز)، بارسال إنذارا إلى منصات بث الموسيقى.
وطلبت منهم عدم السماح لبرامج ومنصات الذكاء الصناعي من استخدام منصاتهم لأغنيات الذكاء الصناعي وطلبوا إزالة الأغنية فورا، وأثارت قضية حقوق الملكية الفكرية، على ضوء تطور الذكاء الاصطناعى، وطالبت الشركة بتعويض مالى كبير.
والغريب في هذه القضية التي ترقى إلى مستوى الأمن القومي الفني، ما يؤكده المنتج محسن جابر (ناهب تراث أم كلثوم)، أنه الآن بصدد اتخاذ كافة الإجراءات القانونية، لإيقاف أى مهزلة أو عبث فى صوت (أم كلثوم)، فأم كلثوم – على حد تعبيره – رمزا كبيرا لا يجوز لأحد أن يقوم بنسخه أو تشويهه، أوالعبث به.
لقد اكتفت (جمعية المؤلفين والملحنين) في حادثة (عمرو مصطفى) بتحذير وصفته فقط بالتحايل للحصول على حقوق أعمال لا يمتلكونها، فقد أصدرت جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين المصرية (الساسيرو) برئاسة الدكتور مدحت العدل، بيانا تحذيريا ضد أي جهة تقوم باستغلال أغانى وموسيقى أعضائها دون الحصول على تصريح وإذن منها.
وقال البيان: (تحذر جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين (الساسيرو) أي شركة إنتاج أو وكالة إعلانات أو شركات الخدمة الرقمية والمنصات بجميع أشكالها أو أي جهة أخرى تقوم باستخدام واستغلال أغان وموسيقى أعضائها من الكتالوج المصرى والأجنبى قبل أن تعود إلى الجمعية).
والسؤال: ماذا فعلت هذه الجمعية مع الفيديو الذي يستعرض بلغة ركيكة وصور من إنتاج الذكاء الاصطناعي عن سيرة حياة (أم كلثوم)، والذي لخصها في مجموعة من الرجال الذين تحلقوا من حولها، وكأنها كانت راقصة عابثة في شارع محمد علي، من يوقف هذه المهزلة التي ترقى لمستوى الجريمة ويطالب بحذف هذا الفيديو المسيئ؟!

حاضرة في حياة المصريين
وأخيرا يا سادة: إنها أم كلثوم، المعجزة الأبدية فى عالم الفن، غير القابلة للاختصار، التى مهما حاولنا تحليل فنها أو نجاحها أو حياتها لا نستطيع أن نلم بها تماما، بل نقدم محاولات، عن (سر العظمة) نطرح أسئلة من نوعية: لماذا كل هذا التأثير الذى تملكه كوكب الشرق؟
كيف اكتملت عندها الأشياء؟ كيف حولت الصعب لسهل، والعادى لجميل؟ وكيف ظلت رغم رحيلها منذ 50 عاما بالتمام والكمال يسمعها الناس ويتأثرون بها، وكأنها تغنى لهم وحدهم؟
ومن هنا فإنه مع مرور 50 عاما على ذكرى رحيل كوكب الشرق (أم كلثوم)، التى أمتعت الملايين من المستمعين من حول العالم بأغانيها، علينا فقط أن نبحث كيف وقع فى الحب على كلماتها الكثيرون، ووقع فى غرامها مؤلفوها الذين أثقلوا بكلماتهم شعورنا بالحب، كذلك موسيقى الأغانى التى تمتعنا مهما طال وقتها.
خمسون عاما على رحيل جسد السيدة أم كلثوم، لكن الأثر لا يزال موجودا، فرغم الرحيل، فإن أم كلثوم لا تزال حاضرة فى حياة المصريين، والأعجب، أن الأثر يزداد كلما مرت السنوات على رحيلها، فالأجيال المتعاقبة تعجز عن تهميش ذكرى أو نسيان أعمالها، حتى أصبحت سرا مصريا يشبه أسرار الأهرامات الخالدة.
وغير معروف على وجه الدقة ذلك السر الغريب الذى يجعلك تنساق وراء هذا الصوت العذب بإحساسه الناعم والقاهر فى نفس اللحظة، خصوصا إذا جاء صوتها من مصدر مجهول أثناء السير فى الشارع أو الجلوس فى شرفة المنزل، أو مقهى بلدى خاليا من رواده بعد منتصف الليل.
ولإجل كل مامضى علينا كعشاق لصوتها، وكجمعيات وورثة ومسئولين أن نطلق صيحة مدوية قائلين: كفوا عن العبث بحياة وتراث العظيمة (أم كلثوم) التي تطل برأسها من تحت التراب مستنكرة ما يجري لها!!!