
بقلم المفكر الكبيرالدكتور: ثروت الخرباوي
(أنور عبد المغيث)، مؤلف وكاتب الحوار والسيناريو لمسلسل (جودر) من هو؟: لاشك أنه كاتب كبير قدير، له قيمته الأدبية والفكرية، لذلك هو محل تقدير مني، خاصة وأن أعماله تشهد له.
ولأن مسلسل (جودر) الذي شاهدناه في شهر رمضان الماضي قد استحوذ على اهتمامي لذلك استحوذ التأليف وصاحبه (عبد المغيث) على اهتمامي الأكبر، فالمؤلف هو محرك الأحداث وهو خالق الشخصيات.
أما فكرة القصة فهي مأخوذة من حكايات (ألف ليلة وليلة)، التي تمتاز بطابع غرائبي وسريالي، وتُبنى على الخوارق والحظوظ والمفاجآت، لا على المنطق السببي، وهنا تبرز الإشكالية: كيف ننقل حكاية شعبية أسطورية إلى دراما تلفزيونية ذات منطق عصري؟.
وليعذرني الأستاذ الكبير (عبد المغيث) في هذا المقال، لأن رؤيتي النقدية هنا لا علاقة لها بتقديري له، إذ باعتباري من المشاهدين فإن لي الحق في محاكمة نص (جودر) بمعايير ذائقتي الأدبية التي يمكن أن تختلف مع ذوائق أخرى، فليس بالضرورة أن تكون ذائقتي قائمة على أسس علمية، ولكنها في المقام الأول تقوم على إحساسي كقارىء ومشاهد.
من خلال تلك الذائقة المشاغبة رأيت أنه كان هناك تسطيح في البناء الدرامي لشخصيات المسلسل، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فقد وجدت أيها السادة المشاهدين أن شخصية (جودر) تتحرك بقدرية مفرطة، هو مجرد عروس على مسرح الأحداث، تحركه يد الأقدار.
وكأنه مفعول به في الحكاية، لا فاعل، هو يسير في الخط المرسوم له دائما حتى أننا لم نشهد له لحظة تحول حقيقية، بل إن مولده واسمه وبلده ووالده وأمه، كل ذلك كان أمرا قدريا، عرفناه قبل أن يولد وينزل إلى دنيا البشر، وقد نقبل هذا في الحكاية الشعبية، ولكن إلى حد ما.

تلك الشخصية القدرية
حيث يجب أن تظهر شخصيته وإرادته وطموحاته ماثلة أمامنا من خلال حركته وسط هذا العالم الدرامي، وبمعنى آخر يجب أن تمر تلك الشخصية القدرية بما يمر به الإنسان في حياته، حيث ينتقل من الخير إلى الشر أحيانا، يقع في الخطيئة كما يقع كل الناس، ثم يقاوم نفسه.
ثم يتجه إلى الصواب، ويصحح مواقفه، فيعطي له القدر المكافآت على هذا التحول الطيب، ولكن في المسلسل رأينا في كثير من الأحداث الحاسمة (مثل مكافأته أو اكتشافه الكنوز أو انتصاره وهو يواجه الشر) تأتي كمكافآت مجانية لا تنبع من صراع داخلي أو نضج درامي.
وكذلك الشخصيات التابعة لجودر، شقيقه الشرير يظل شريرا طول الوقت بلا تغير أو تبدل، رغم الخير الذي أغدقه عليه (جودر)، وبالرغم من ذلك كان يزداد شراسة في الشر بلا أي مؤاخذة ضميرية ولو بينه وبين نفسه، لدرجة أنه عندما أتيحت له فرصة الفوز جراب الطعام الذي يقدم الطعام بشكل دائم بلا توقف، إذا به يذهب ليعطيه لزعيم عصابة الأشرار.
ولم يفكر في نفسه إلا أن يكون خادما للشرير، بل وفي أقل درجات الخدمة، نعم نرى هذا كثيرا في حياتنا وعبر التاريخ، ولكن عندما تتاح الفرصة لمثل هؤلاء فإنهم يغتنمون الفرصة ولو بالخيال ليصبحوا مثل أو أفضل من نقموا عليهم.
عندك مثلا شخصية (رشدي) في فيلم شيء من الخوف الذي قام بها الفنان الكبير القدير (أحمد توفيق) حيث ظل تابعا لعتريس خاضعا ذليلا لهذا الشرير، وعندما أتيحت له الفرصة إذا به يصاب بلوثة ويظل يصيح (أنا ستين عتريس).
ولكن شقيق (جودر) في المسلسل لم يفكر أن يكون زعيما للعصابة، ولا فكر أن يكون مثل (جودر) رجل الخير، كل ما في الأمر وبشكل سطحي ليس له مبرر قوي إذا به يتحول إلى الخير في نهاية المسلسل ثم يقف متفرجا على الأحداث في خنوع، مثله مثل شقيقه الآخر ممسوح الشخصية المتردد.
أما الأهم في البنية الرئيسية للقصة فهو هذا الخلط غير المحسوب بين الخرافة والدراما، نعم هناك أسطورة، وهناك دراما، ولكن يجب التوفيق بينهما حتى لا يحدث خلل بين هذا وذاك، فالحكاية الأصلية تتقبل العجائبية والأسطورية، لكن الدراما تتطلب منطقًا مهما بلغ الخيال.
فالمُشاهد اليوم لا يرضى بنهايات تعتمد على (كلمات سر) أو حلول اعتباطية، بل يبحث عن تطور حقيقي في الشخصية وفي الصراع، والحقيقة يا أيها المؤلف الكبير ولك كل التقدير والاحترام.

عمل تراثي بأبعاد فلسفية
يؤسفني أنك خذلتني، فمسلسل (جودر) كان يمكن أن يكون عملاً تراثيًا ذا أبعاد فلسفية، لكن التأليف ـ ويبدو أن العجلة كانت سببا لذلك ـ أخفق في تحويل الخرافة إلى دراما متماسكة، خاصة في صياغة النهاية، التي بدت هروبًا من البناء الدرامي، واكتفاءً بانطباع مدهش سطحي.
مجرد كلمة تنطق بها تلك الشريرة رفيقة الشيطان، حينما تقع في الخطأ وتقول (إنسان) فينتهي الشر تماما، مع أن الشيطان وعداءه مع الإنسان ليس هو كل الشر في الكون، ولكن الإنسان نفسه حتى بدون شيطان ظل قادرا على إنتاج الشر وسفك الدماء عبر التاريخ.
ويا أسفاه فالمسلسل الذي قُدم على أنه عمل تراثي مأخوذ عن (ألف ليلة وليلة)، خسر منذ البداية رهانه على الدراما، واكتفى بأن يكون نقلاً خجولاً لحكاية غرائبية، فالحكاية الأصلية وإن كانت تحتمل الخوارق، فإنها كانت تقول شيئًا عن الإنسان، عن الحظ والقدر، عن الطمع والنبل، عن الصراع مع القوى المجهولة في النفس والعالم.
أما المسلسل، فقد استسلم لمجانية الحكاية، وجعل بطله يمضي في طريقٍ محفوف بالصدف، ويُنهي صراعه مع (الشيطان) بكلمة سرّ: (إنسان) يا للمفارقة.. هل اختُزل الإنسان إلى كلمة؟ أين رحلة التحول؟ أين الخطأ والتوبة؟ أين اللحظة التي يتحول فيها جودر من ابن سوق إلى ابن حكمة؟ لا شيء، كل ما في الأمر أن المخرج كان مستعجلاً، فأنهى المسلسل على طريقة الأطفال: (وقلت الكلمة.. وانتهت اللعبة).
ولنا أيها المشاهد الكريم أن تنظر إلى أعمال أسطورية أخرى مأخوذة من (ألف ليلة وليلة)، وتم تقديمها في أعمال عالمية مثل (علاء الدين) سترى في هذا العمل بنسخه المتعددة البطل يخوض صراعًا داخليًا، يُغرَى بالقوة، ثم يُهذّبه الحب أو الضميرفنرى التحوّل الشخصي قبل الحصول على الانتصار الخارجي، أما جُوْدَر، فلم يتحوّل، بل تنقّل.
الدراما ليست مجرد حكاية تُروى أيها السادة الكرام، بل معنى يُبنى، ويجب أن نعرف أن الحكاية الشعبية ليست نصًا مقدسًا، بل مادة خام تنتظر صانعًا يعيد تشكيلها، ينسجها على نول العصر، ويُحمّلها أسئلتنا.
لكن من المؤسف أن (جودر) هذا البطل الشعبي القادر على أن يكون (رمزًا إنسانيًا)، تحوّل إلى ظل كارتوني، تُحرّكه عجائب الليالي، لا اختياراته ولا ضميره، لقد خانت الدراماُ الأسطورة، وتركت (جودر) بلا عقل، بلا صراع داخلي في نفسه ينعكس إلى صراع درامي يساعد على تصاعد الأحداث.

مقتل ذلك الحطاب الطيب
ولكن أكثر الأشياء التي أضاعت النوم من ذائقتي وأسهرتها الليالي هى مقتل ذلك الحطاب الطيب (عبد العزيز مخيون) الذي كان دليلا طيبا لجودر يساعده من أجل مواجهة الشر، نعم قد تكون هناك ضرورة درامية في أن يفقد البطل دليله، فحينما يجد نفسه وحيدا في مواجهة الشر سيكتسب قوة ما، وينضج ويفهم ويصبح هو الحكيم الجديد الذي قد يصبح بعد ذلك مفتاحا لآخرين يساعدهم في مواجهة الشر.
وأظن أن الدراما قدمت لنا في حكايات كثيرة اختفاء أو موت أو مقتل يُقتل (الشيخ -الأب – الحكيم) عند نقطة معينة، ليضطر البطل إلى الاعتماد على نفسه، وهنا يصبح للقتل ضرورة رمزية: الآن عليك يا جَوْدَر أن تواجه وحد، لكن هل أُحسن المؤلف تقديم هذا المغزى في المسلسل؟
للأسف،لا ، لم تُعطَ شخصية الحطّاب عمقًا كافيًا ليكون قتله فاجعة أو نقطة تحوّل مؤثرة، ولم يُستثمر الحدث دراميًا: كما وضح من السياق الدرامي أنه لم يؤثر بعمق على جَوْدَر، ولم ينعكس على اختياراته أو سلوكه لاحقًا وكأن مقتله جاء لتصفية الممثلين قبل النهاية، لا لصناعة لحظة درامية تحمل معنى.
رغم أنه كان يمكن لمقتل الحطّاب أن يكون لحظة تنوير في حياة (جودر)، أو نقطة تحوّل فلسفية تقول شيئًا عن ثمن الطيبة في عالم تتصارع فيه القوى، لكنّ المسلسل فرّط في هذا الرمز، وتركه يسقط بصمت، كما يسقط كثير من (الحكماء) في الدراما التي لا تعرف كيف توظّفهم.
نهايته أيها السادة أقول لكم وأنا أهمس في أذن ذائقتي المشاغبة التي تجلب لي الشر أحيانا: إن (جودر) لم يكن أكثر من ابن حكاية، لكن الحكايات حين تُنسج على عجل تفقد سحرها، وحين تُكتَب بعيون معاصرة دون عقلٍ معاصر، تختلط فيها الحيلة بالبلادة، والرمز بالتسطيح، ويضيع الخيط بين الخرافة والدلالة.
لقد خرج مسلسل (جودر ابن التاجر عمر) من عباءة (ألف ليلة وليلة)، لكنه نسي أن عباءة الحكاية ليست هي الرداء الدرامي، فحين تخرج الحكاية من طقس السرد الشفاهي إلى شاشة التلفاز، فإنها تطالب بإعادة خلق، لا بإعادة نقل، تطالب بلحم جديد على عظم قديم، وبنبض إنساني يمنحنا ما هو أعمق من كنزٍ وشيطان وكلمة تُقال فتنتهي اللعبة.
المفارقة أن النهاية، وهى لحظة الارتقاء والتنوير، جاءت في المسلسل كأنها نهاية لعبة فيديو لا دراما: يُهزم الشيطان لا بسيف ولا بفداء ولا بمواجهة أخلاقية، بل بكلمة سرّ: (إنسان)!، وهنا تكمن المهزلة الرمزية: فقد تحوّل الإنسان إلى كلمة تُقال؟
فهل كانت النهاية درسًا في الإنسانية؟ أم مجرد حيلة من حيل (شهرزاد) التي تُحب أن تُنهي القصة فجأة لأنها قد تعبت، أو لأن الملك شبع من الحكاية.