
بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
طالعت قبل يومين آخر إحصائية مبدئية لعدد المسلسلات المصرية التي سيشاهدها الجمهور المصري والعربي، والتي تصل لأكثر من 40 مسلسلا حتى الآن في موسم رمضان 2025، ولم أجد من بينها مسلسلا واحدا يحمل توقيع أديب الدراما المصرية (محمد جلال عبد القوي).
وأقولها صريحة ومباشرة: لست متفائلا بكل هذا الكم من المسلسلات التي لاتبشر على الإطلاق، خاصة أن هناك أجزاء ثانية وثالثة وخامسة تستجدي نجاح أجزائها الأولى التي فشل غالبيتها في تحقيق النجاح المطلوب سواء على مستوى الشكل أو المضمون.
الأمر المحير أن هذا يحدث للعام الثالث على التوالي، فلم ألمح اسم الكاتب والسيناريست الكبير (محمد جلال عبد القوي) ضمن الـ (41) مسلسلا، رغم أن الشركة (المتحدة) أعادت تجديد تعاقدها معه قبل سنة تقريبا على ثلاث مسلسلات، هى (علي إبراهيم) الذي يروي السيرة الذاتية لـ (أبو الطب في مصر)، و(زين الحسني) الذي يحكي بطولة أحد رجال الصاعقة الذي أنقذ مواطنا مصريا من الانتحار بإلقاء نفسه في النيل، و(أسد سيناء) الجندي (سيد زكريا خليل).
وكتبت هنا في نفس المكان قبل سنة بالتمام والكمال – تحديدا يوم 7 فبراير 2024 – مقالا بعنوان (عوددة محمد جلال عبد القوي إلى حضن الدراما المصرية) بشرت فيه قائلا: حسنا فعلت (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) برئاسة (عمرو الفقي)، عندما كلف الزميلة (علا الشافعي) مسئولة المحتوى الدرامي، في التفاوض مع أديب الدراما المصرية (محمد جلال عبد القوي) لعودته إلى حضن الدراما المصرية.
ومن ثم فإنني ألمح أن هناك إصرار واضح على إهمال أبرز رموزنا المصرية مثل (محمد جلال عبد القوي)، والكاتب الكبير (محمد السيد عيد)، الذي انتهي قبل سنوات من كتابة مسلسل (طلعت حرب)، وأيضا الرائعة الدكتور (لميس جابر)، صاحبة مشروع مسلسل (محمد علي باشا).
فضلا عن كوكبة من كبار المخرجين مثل (محمد فاضل، إنعام محمد علي، جمال عبد الحميد) وغيرهم الكثير، الذين أثروا الدراما التليفزيونية المصرية بروائع الأعمال الخالدة.
تماما كما تم إهمال الراحلين الكبار (يسري الجندي، كرم النجار، محفوط عبد الرحمن، محمد أبو العلا السلاموني)، ووضعهم طي النسيان حتى رحلوا عنا بفعل الغبن الذي وقع عليهم، لقد ماتوا جميعا مقهورين جراء سوء التقدير والاحترام الذي كانوا يستحقونه على حياة عينهم.

استبعاد (محمد جلال عبد القوي)
وأعود للكاتب العظيم (محمد جلال عبد القوي) الذي يملك عزة نفس تجبره دوما على عدم الاستجداء أو الشكوى من الإهمال، مع أن وجود عمل يحمل اسمه الكبير كفيل باعتدال دفة الدراما التلفزيونية المصرية، وسط هذا الكم من الزيف والتفاهة التي تسود معظم مواسمنا الحالية.
وهنا أتساءل في دهشة: إلى متى يظل إصرار صناع الدراما المصرية على تعمد استبعاد (محمد جلال عبد القوي) من قائمة الأعمال التلفزيونية، وهو الذي أمتعنا كثير من خلال أكثر من 40 مسلسلا تظل علامات بارزة تزين قمة فن الدراما التلفزيونية في مصر، قبل أن يزحف علينا الجراد والسوس الذي ينخر في عظام قوانا الناعمة؟!
ولا أحد يقول لي أن مسلسلات (محمد جلال عبد القوي) أصبحت من الكلاسيكيات التي لايقبل عليها الشباب، فهل هناك إحصاء لنسب مشاهدة الأعمال التركية الكلاسيكية (المؤسس عثمان، السطان عبد الحميد، نهضة السلاجقة)، ومن قبلهم (قيامة أرطغرل، أنت وطني، محمد الفاتح) وغيرهم، والتي يشاهدها مليارات المشاهدين حول العالم.
الملاحظ أن صناع الدراما المصرية في الوقت الذي يهملون فيه مسلسلات (محمد جلال عبد القوي)، يلجأون إلى ورش الكتابة التافهة عبر أعمال لاتعبر بالضرورة عن قضايا الوطن، بقدر ما يرسخون للعنف والبلطجة وتشويه صورة المرأة، وكسر جدار العائلة، ومخاصمة التقاليد والعادات في منافسة قبيحة مع المنصات التي تروج لنوعيات رديئة من الدراما.
منذ أكثر من عشر سنوات ونحن نعيش في مستنقع الدراما التلفزيونية المصرية التي لا تحمل قيمة ولا معني سوى تصوير مجتمع متفسخ لا تسوده الرحمة، على جناح الدم والجنس الحرام، وتسطيح القضايا التي لا تلجأ إلى تفعيل دور قوي لرجال القانون والشرطة الوطنية التي تحمي المجتمع بقدر ما تضر به.
ربما يلحظ كثيرون أن رجل الشرطة الشريف والقاضي النزيه اختفي تماما في غالبية المسلسلات أو حتى الأفلام الحديثة، وعزفوا عن ممارسة دور الطبيعي، عندما لجأوا إلى البطل الأوحد (الهيرو) الذي عادة ما يلجأ لأخد حقه بالدراع أو السلاح الأبيض والناري في إفراط غير معقول، وكأننا نعيش عصر الغاب.

اختفاء رجال القانون والشرطة
ألم يلفت نظر صناع الدراما التليفزيونية تلك المسلسلات الأمريكية والإسبانية والهندية والتركية وحتى الكورية التي يحتوى مضمونها مشاهد مبالغ فيها من العنف والقتل دون الاستغناء عن دور رجال القانون والشرطة، تلك التي اختفت بفعل فاعل في درامانا التي تعرض حاليأ.
فبالنظر إلى غالبية الأعمال التلفزيونية الحالية التي تخلو من عمل رصين للكاتب العظيم (محمد جلال عبد القوي)، سنجد العشوائية السائدة في السيناريوهات الغارقة في العنف والبلطجة، وغياب منطق التسامح داخل العائلة الواحدة التي يطيح فيها الابن بأبيه وأمه وأخوته، وسيادة منطق (قابيل وهابيل).
صحيح أن منطق الصراع في ظل حروب الإبادة الحالية وغيرها من مظاهر الانتقام موجودة من قدم التاريخ وستظل إلى قيام الساعة، ولكن أحيلك إلى قول أرسطوا: (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، لكن الدراما تكتب الأحداث كما ينبغي لها أن تقع).
ما يعني أن دور الدراما التلفزيونية التي تكتب المسودة الأولى للتاريخ هو تجميل ملامح حياتنا، وحتى عندما يلجأون إلى (النوستالجيا أو الكوميديا) فإنها تأتي على جناح السطحية التي لا تجلب الضحك القادم من القلب – بحسب (فلوستاف) الضاحك الباكي – بقدر ما تجنح إلى السذاجة في إطار ترسيخ نظام صناعة التفاهة.
هذا النظام الذي أصدره المفكر والفيلسوف الكندي (آلان دونو) في كتاب، ملفتا للانتباه تحت عنوان (نظام التفاهة)، في هذا الكتاب يقول هذا المفكر الكندي إن (التفاهة) قد بسطت سلطانها على كافة أرجاء العالم.
فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة ةالإبداع، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصل والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام، في مسألة القوى الناعمة.
أشخاص تحت مسميات مختلفة (بلوجر، يوتيوبر، فاشينستا..)، وما الى ذلك من الألقاب) يدخلون في سباق الأرقام لصناعة التفاهة ونشرها في المجتمع، حتى أصبحت هذه الظاهرة حالة مرضية سرعان ما تؤدي إلى العدوى السريعة والمباشرة حتى أصبح لقب الشخصية المؤثرة الآن يشار به إلى الشخص صاحب الرقم الأكبر بالإعجاب والتفاعل بغض النظر عما يقدمه من محتوى.
بعدما كان مصطلح مؤثر مثل (محمد جلال عبد القوي) يشار به إلى المثقف أو صاحب المنجز الإبداعي أو مستعرض علم ومهارة معينة والذي يسعى لإثبات وجهة نظره لجمهوره أو يكون قادر على التأثير بالمجتمع وبالثقافة الفنون ومجالات الإبداع.
الانتشار السريع الذي وفرته وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تضج بها الهواتف النقالة من (سناب شات، فيسبوك، إنستجرام، تيك توك) بدأت بالظهور على هذه المواقع شخصيات لا تملك أية موهبة ولا حتى تحصيل علمي، شخصيات بمحتوى ومظهر خارجي لم نعهده من قبل.

تسمية (صناع المحتوى)
كل ما يقدموه هو التفاهة، كل يوم نصحو صباحا على أشخاص يتصدرون الترند، انتشرت هذه الظاهرة كالنار في الهشيم حتى أصبحت التفاهة مهنة يسترزق منها هؤلاء الذين اصبح يطلق عليهم لقب (مشاهير) أو (مؤثرين) حتى أصبحوا هم (رموزا) فنية وإعلامية وفي التواصل الاجتماعي.
الأصل في التفاعل هو الحوار، لذلك نجد أن صناع التأثير سابقا مثل (محمد جلال عبد القوي) لا يمكن أن يؤخذ منهم ألا ما هو مقبول من وجهة نظرهم، لأنهم من أشد الرافضين أو الممانعين للأفكار الغريبة، ولاسيما الشاذة منها والتي طرأت حديثا، وهذا ما يخلق حراكا ثقافيا في المجتمع.
على العكس من بعض ما يطلق عليهم تسمية (صناع المحتوى) في وقتنا الحالي إذ تجدهم جل همهم هو مدى قدرتهم على جمع أكثر عدد من المشاهدات لنجد أن (المؤثر) يتحول من تافه بلا قيمة الى شخص يحتذى به ويتابعه ملايين الأشخاص.
حالة التفاهة التي تحيط بنا يقف من وراها شخوص كُثر فهناك صناع ومنتجون مستثمرون ومخططون وحتى رعاة ومستفيدون وأبواق لها. وقد نجحت مواقع التواصل الاجتماعي بتحويل التافهين إلى رموز لأننا في زمن يكافئ التافه عوضا عن المؤثر الحقيقي.
إذ صار بمقدور أي جميلة بلهاء تمتلك جسد بمقومات معينة أو أي وسيم فارغ المحتوى أن يفرضوا أنفسهم على المجتمع عبر مجموعة منصات هلامية لا ينتج منها أي منتج صالح لتحدي الزمان، إذ اننا في زمن سيطرت فيه التفاهة على جميع مفاصل الحياة حتى انها صارت تُكرم ويكافئ أصحابها.
يتشدق المسئولون في أكبر شركة إنتاج في مصر والعالم العربي عن النجاح واستعادة الوجه المشرق للدراما التلفزيونية قبل موسم رمضان من كل عام، في وقت يصرون على إنتاج لا يليق بوجه مصر الحضاري، عندم يغرقون في العشوائيات والعنف والقسوة بدعوى أن الدراما التلفزيونية تعكس الواقع المرير.
دعونا نستفيق ونحرص على إنتاج فني تلفزيوني نستعين فيه بما تبقى من رموزنا في الكتابة الإبداعية أمثال (محمد جلال عبد القوي) وغيره، ممن ذكرتهم من قبل، عندئذ فإن هذا كفيل بتصحيح المسار وإهالة التراب على الفاسد والردئ من الفن التلفزيوني والسينمائي الذي لعب أدوارا مهمة في المجتمع الذي افتقد القدوة والمثل، والله غالب على أمره.